"عن المرأة" في حديث مع الشيخ جمال البنا (1)
حاورة د/الهام مانع
ذهبت إلى مصر قبل أربعة أسابيع. وعرفت لحظة حططت قدمي على ترابها أني لن أتركها قبل أن ألتقي بالشيخ جمال البنا. كنت قد حددت موعدي معه قبل سفري من سويسرا إحتياطاً. خفت أن أتصل به بعد وصولي لأكتشف أنه في مكان أخر. عندما تحدثت معه على الهاتف، رحب بي رغم أنه لا يعرفني. سألني عن أي موضوع أرغب في الحديث معه، قلت له "عن المرأة"، رد قائلاً: "جميل، فأنا لدي الكثير من الكتابات حول هذا الموضوع".
ذهبت إليه في الموعد المحدد، يوم الثلاثاء 11 يوليو العاشرة صباحاً، ووصلت متأخرة خمس دقائق، ومن يعرف زحام القاهرة سيدرك مدى المجهود الجبار الذي بذله سائقي كي نصل في الموعد، هذا رغم أننا خرجنا في التاسعة والربع تحسباً لأي طاريء قد يعطلنا.
وجدته ينتظرني في شقة كل جدرانها العالية مغطاة بأرفف من الكتب. كتب في كل مكان، كتب من كل زمان، كتبٌ تُشذي رائحة صفحاتها أنفي. لم أدرِ هل أقبُل عليه وأحييه، أم أنصرف إلى الكتب وأغرق فيها.
تعرفون بالطبع ما حدث. ذهبت إليه، شددت علي يديه بحماس، كأنه أبي، كأني فارقته ثم عدت لألتقيه بعد سنين طوال. إبتسم لي، أظنه اعتاد على هذه الحماسة من بعض محدثيه. وجلسنا. ثم بدأنا الحوار.
عدت أقول له "أريد أن أحدثك عن المرأة، وبصراحة".
وقبل أن أفصلَ أكثر بدأ الحديث، دون تقديم، دون تمهيد. فيما يلي نص الجزء الأول من هذا الحوار الذي دام لأكثر من ساعة.
الشيخ جمال البنا: نحن من المعنيين بقضية المرأة، بالنسبة لأهميتها الموضوعية، وبالنسبة للإسلام أيضاً، لأنه أسيء فهمها لدى كثير من الإسلاميين، فأصدرنا أربع كتب عن المرأة.
أولها كتاب عن الحجاب، أثبتنا فيه أن الحجاب فُرض على الإسلام ولم يفرض الإسلام الحجاب. لأن الحجاب كان موجود من الفين قبل الإسلام، فمن غير المعقول أن الإسلام هو الذي فرض الحجاب، كان موجود قبل ألفين سنه، فلما جاء الإسلام حاول أن يعدل في هذا الوضع، لكن التعديل في العادات والتقاليد ليس سهلا، فعمل مباديء كان ممكن لو أن لدى المجتمع نفسيه عادلة أو موضوعية بالنسبة للمرأة أنها تقدمه، ولكن لما كان الفكر المترسب هو الفكر الذكوري ضد المرأة، فأُولت كل النصوص تأويلاً مغايراً، ثم إضيفت أحاديث لا عداد لها عن دونية المرأة. هذا كتاب عن الحجاب.
إلهام مانع : قبل أن نتحول إلى الكتب الأخرى ــ أشرتم إلى ان الحجاب فرض على الإسلام. دعني إذن ألفت إلى ظاهرة التحجب بل والنقاب التي أصبحت منتشرة في مصر. ضمن هذا الصدد، كنتُ قد كتبت مقالاً دعوت المرأة المسلمة فيه إلى خلع الحجاب، وحددت تلك الدعوة من منطلق إقتناعي بكونه رمزٍ سياسي لا أكثر. سؤالي إليكم، كيف تعقبون على ما هو حادث الآن، وكيف تعقبون على هذه الدعوة؟
الشيخ جمال البنا: القضايا الإجتماعية والقضايا الدينية تختلط ببعضها البعض، ولا يمكن الفصل بينهما. فالذي حدث أنه في مصر الليبرالية، مصر من عام 1920 إلى 1952، ما كانت هناك فكرة حجاب إلا بالنسبة للعجائز والمسنات، وأنا شخصياً تصورت مع أختي فوزية من غير ما تغطي شعرها، هناك أكثر من صورة، لأن الجو والمناخ أدى إلى فهم، كاد أن يؤدي إلى تفسير النصوص الدينية تفسيراً يتلاءم مع نفسية المجتمع وروحه.
لكن حدث بعد ذلك تطورات خطيرة جداً، حدث أولاً عبد الناصر والحكم الفاشي العسكري المتخبط الديكتاتوري، والتعذيب، والصراع بينه وبين الأخوان المسلمين. ثم حدث بعد ذلك ظهور السعودية كقوة كبرى مع إرتفاع أسعار النفط في حرب رمضان سنة 73، ثم حدث بعدها ظهور الثورة الإيرانية، وظهور الخميني، كل هذه عوامل غيرت من فهم المجتمع الإسلامي للإسلام، لم يعد الفهم الليبرالي الخاص بمصر الأربعينات والقاهرة، بل أصبح سعودياً وإيرانياً، إضافة إلى كونه ردة فعل على عدواة عبد الناصر والتعذيب في السجون التي وضعت بذرة الجماعات الفوضوعية، الجماعات الهاربة، جماعات العنف والرفض، كلها وُلدت في سجون عبدالناصر وكرد فعل على التعذيب. بحيث أنه حدث نوع من الإختلاف بين الأخوان المعتقلين وبين الشبان، سواء كانوا من الأخوان أو تم أعتقالهم إعتباطاً، هؤلاء الشبان تأثروا بالتعذيب وأنتهوا إلى نتيجة أن هذه الحكومة التي تأمر بهذه الصور من التعذيب ليست إسلامية، إنها كافرة، بدأت بذرة التكفير كرد فعل على هذه العملية.
لما الأخوان وجدوا هذه الظاهرة، والأخوان لديهم قوة وطول بال وأحتمال، ونوع من المصابرة، أرادوا يفهموهم أن هذا المسلك غير سليم، وأصدروا كتاب تحت عنوان "دعاة لا قضاة"، من أهم الكتب، واللي عمله المرشد الثاني حسن الهضيبي، اللي هو كان ولا للعجب أكبر شخصية قضائية في وقته، أي وصل إلى محكمة النقض، ومع هذا فهذا الرجل القاضي العظيم يقول نحن دعاة ولسنا قضاة، نحن لا نقول للناس ده مؤمن وده كافر، ده يدخل الجنة وده يدخل النار، إحنا ندعو بالحكمة والموعظة الحسنة، ده كان موقف الإخوان، لكن المناخ كان مناخ عنف، ليس مناخ منطق، فسادَ مناخُ العنف، وانتشرت في هذه الفترة أفكار سيد قطب التي بدأت تظهر في هذه المرحلة، رغم أنها قد عُرفت في أواخر الأربعينات، لكنها لم تكن رائجة إلا عندما عمل عبد الناصر العدوات المريرة ودخل في العملية هذه، فوجد مناخ يسمح لها، ويقدم أيديولجية مقابلة.
إلهام مانع: بمعنى ان العنف يولد العنف.
الشيخ جمال البنا: العنف يولد العنف، ردة الفعل كما الفعل نفسه، فعل سيء أوجد رد فعل سيء، فعل غشيم عسكري أوجد رد فعل عنيف ورافض.
كل هذه التحولات، خذي مثلاً العمال المصريين الذين ذهبوا إلى السعودية، مئات الألوف، وليسوا عمال فقط، بل من أعلى المستويات، وعاشوا في السعودية، وتأقلموا إلى حد ما، وايضاً ترسبت فيهم الأصولية وعادوا، وكانوا دعاة (لهذا الفكر).
خذي رابطة العالم الإسلامي، لديها أموال، وهي تقوم ببناء المساجد في الدول الأوروبية، هي التي تقدم الكتب، هي التي بتقدم الأئمة،... كل الأئمة في سويسرا كانوا أتراك، كله وهابيين. كل هذه عوامل غيرت الإتجاه تماماً. فالأسلام اليوم غير الإسلام الذي كان موجود في عام 1930 و1940، غير الإسلام الذي كان موجود وسمح بوجود حسن البنا، وعاش فيه حسن البنا.
هذا عهد العسكر، عهد الإستبداد، عهد العنف، عهد صعود الدول الإسلامية المتشددة.
إلهام مانع: الكتاب الثاني عن المرأة؟
الشيخ جمال البنا: الكتاب الثاني إسمه "المرأة المسلمة بين تحرير القرآن وتقييد الفقهاء". وهو مبني على فكرة محورية في فكرنا كله، وهو أن هناك نوعان من الإسلام، إسلام القرآن والرسول من ناحية، وإسلام الفقهاء من ناحية اخرى. إسلام القرآن والرسول بيضع الخطوط العريضة، ويقوم على أساس كرامة الإنسان وعلى أساس الحرية وعلى أساس القيم.
لكن الفقهاء، ما الذي نعنيه بالفقهاء؟ يعني المشرعين، الذي يضعون القانون، لأن القانون في الدولة الإسلامية هو الشريعة، هو القانون الإسلامي، فالفقهاء هؤلاء وضعوا منظومة المعرفة الإسلامية في القرن الثالث الهجري، في الوقت الذي بلغت الدولة الإسلامية مرحلة الإمبراطورية، يعني مثلاً أحمد بن حنبل، رمز السلفيين، عاصر المأمون، الذي وصلت فيه الدولة الإسلامية مرحلة كان فيها أبو الرشيد يقول للسحابة "إذهبي حيث شئت، فسيأتيني خراجك".
هل كان بإمكان هؤلاء الفقهاء أن يصدروا أحكاماً تتعارض مع منطق الطبيعة الإمبراطورية للدولة؟ لم يكن ذلك ممكنا، ولما أختلفوا مع الدولة تعرضوا للإضطهاد. الأئمة الأربعة كلهم تعرضوا للإضطهاد. الشافعي كان قاب قوسين أو أدني أن يقتل، لولا أن دخول محمد بن الحسب أنقذه. الإمام أحمد بن حنبل ُضرب حتى كاد يموت تحت السياط.
الإمام مالك بن أنس، لأنه أفتى بفتوى قال فيها "ليس على مكره يمين"، الفتوى هذه كانت بالنسبة لموضوع طلاق، لكنها أُولت بأن البيعات التي تؤخذ إضطرراً من الناس لا قيمة لها، فضربوه. أبو حنيفة قيل أنه تم تسميمه لأنه رفض القضاء لأبي جعفر المنصور. فهؤلاء الأئمة تعرضوا إلى الإضطهاد.
بعد ذلك جاء أناس أقل منهم، وبعدين وجدوا الأمر الواقع، يعني الغزالي توفي عام 1505 تقريباً تكلم على الوضع بطريقة مؤثرة قال "ماذا نفعل وقد أنتصر الغاصبون على الحكم؟ هل نحاربهم، لا نستطيع كي لا تصبح فتنة، هل ننتكر لهم وتصبح فوضى، هل نتركهم يزدادوا، ثم قال ان أحسن طريقة أننا نعمل في خدمتهم ونحاول بقدر الطاقة أن نحجم من شرهم".
فكانت الطريقة أن كل منظومة المعرفة الإسلامية سواء كان تفسير أو حديث أو فقه وضعت في ظلال هذا المناخ وهذا الوضع، فجاءت مجافية لأحكام القرآن والرسول.
إلهام مانع: إذن دعني سيدي أعرض عليك رأيي فيما يتعلق بهذا الجانب. المفسرون، الفقهاء يتعاملون أيضاً مع نص، والنص الموجود رغم كل شيء، أرى أن فيه جوانب تظل مجحفة بحق المرأة..
الشيخ جمال البنا: لا، ليس شرطاً. لا يوجد نص قرآني بتغطية مكان معين من جسم المرأة إلا فتحة الصدر.
إلهام مانع: لا، أنا أتحدث فيما يتعلق...
يقاطع الشيخ جمال البنا: في الميراث مثلاً؟
إلهام مانع: في الميراث، وفي مسألة الضرب تحديداً.
الشيخ جمال البنا: العنف العائلي موجود، وهي ظاهرة سيئة، لأن الطبيعة البشرية ليست ملائكية، كما أن المجتمع الإنساني ظل ذكوريا لعشرات الألوف من السنين قبل أن يتقدم خلال الألفين سنة الأخيرة، أو الألف سنة الأخيرة، فبحكم طبائع الأشياء، بحكم أن الرجل قوي، والمرأة أضعف، وبحكم الأوضاع الإقتصادية، وعدد كبير من العوامل، كلها تضع المرأة في وضع ضعيف، فالرجل يقدم على الضرب.
فماذا فعل القرآن؟ النصوص القرآنيه بالنسبة للمرأة وبالنسبة للرق أريد بها ليس الإبقاء على الوضع ولكن تغيير هذا الوضع في الحدود التي يسمح بها الوقت مع فتح الباب للتطور، بحيث أن اللفظة القرآنية تقبل أكثر من معنى، وبحيث أنه يوجد نص يضع حسابه الوضع، ويوجد نص أخر يضع في حسابه المستقبل، وهذا ما جعل بعض الناس يقولون أن هناك نسخ في القرآن، وفيه أيات متفاوتة، وأن القرآن حمال، ما هو طبعاً ضروري يكون حمال، لأن القرآن إتعمل لكل العصور ولكل الناس، فلا يمكن أن نحمل الناس جمعياً في كل الأزمنة على وضع محدد مبتسر واحد. مستحيل.
النصوص في يد الذي يفسرها، فليس المهم النص، ولكن المهم الفهم. حتى لما يكون له دلاله قطعية "كلوا" و"سيروا". الجماعة لما يقولوا "وكلوا من طيبات.."، لما كانت هذه الآية تنزل يفهموا إيه بالأكل (حينها)؟ قاعدين، على الأرض، ويأكلوا بأيديهم. لكن ما الذي تعنيه "وكلوا" بالنسبة للإنسان الحديث اليوم؟ مائدة، وشوك وسكاكين، وطريقة معينة، يعني حتى الدلالة القطعية التي هي "الأكل" مضمونها بيختلف اليوم عما كان عليه في الماضي، فالنصوص ليست هي الهامة، المهم هو فهم النص، وفهم النص واسع لأنه في يد الفاهم.
إلهام مانع: بكلمات أخرى، أنتم تقولون أن الدين يتغير بتغير الفهم، بتغير الشخص المتعامل مع هذا النص. بمعنى أخر، إذا كان هذا الإنسان خيراً سيكون تفسيره لهذا الدين خيراً، والعكس صحيح.
الشيخ جمال البنا: والعكس صحيح. بالضبط. يعني مثلاً لما القرآن يقول أربع زوجات، أريد بهذا النص ليس التعدد ولكن تقييد التعدد، ولكن لم يكن من الممكن (آنذاك) إلغاء التعدد، فكان التعدد يسمح بعشرة، فجاء القرآن وعمل أربعة، وبعدين هي آية غريبة "وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامي فأنكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع... وإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة". هذه آية مقدمة بشرط ألا تقسطوا في اليتامي، حالة معينة كانت في المجتمع العربي، وليست موجودة الآن ربما، ومختومة بشرط "إن خفتم ألا تعدلوا فواحدة"، ومع هذا فلم يفهم منها المسلمون سوى "مثني وثلاث ورباع".. (يضحك)، هذه صورة من صور الفهم حسب المستوى وحسب الإراد،ة وتطويع الفهم كي يتفق مع الوضع.
فالكتاب يبين أن هناك مستويين مستوى القرآن والرسول، ومستوى الفقهاء، وبيقدم أسئلة عليه.
إلهام مانع: سيدي، دعني أطرح عليك السؤال بهذه الصيغة. إلى اليوم أشعر أن المأزق لدينا أننا نتعامل مع نصوص، ونقول "هذا النص موجود، كيف يمكننا أن نفعل ما يخالفه؟" سؤالي لما لا نستطيع ببساطة أن نقول "هذا النص موجود، صحيح، لكن زمانه أنتهى".
الشيخ جمال البنا: نقدر أن نقول هذا. كل ماجاء في القرآن والسنة عن الشريعة، اللي هي الأمور الدنيوية، فالإسلام مقسم إلى قسمين: عقيدة وشريعة، عقيدة يعني الإيمان بالله وكتبه ورسله واليوم الأخر، والشريعة أي كل الدنيويات، العلاقات بين الحاكم والمحكوم، بين الرجل والمرأة، الحدود، الميراث، القوانين، إلخ، كل ما جاء في القرآن من الشريعة إنما نزل النص فيها لحكمة كانت موجودة عندما نزل النص، والحكمة هذه بصفة عامة هي العدل، يعني العدل روح الشريعة، ويوجد فقيه هو أبن القيم قال كلمة حلوة "حيثما يكون العدل تكون الشريعة"، وإذا دخل في الشريعة شيء لا يتفق مع العدل، يجب إخراجه منها، .. وإذا لم يوجد في الشريعة شيء يوجبه العدل يجب أدخاله فيها، وهو تعريف جامع مانع، فإذا ظهر أن التطور غيرَـ بحيث أن الحكمة التي أريد بها نزول هذا النص لم تعد موجودة، أو تحتاج إلى تعديل، عندئذ يجب علينا أن نعدلها بما يحقق الهدف وهو العدل، بدون أي حرج بدون حساسية، ونقول أن هذا هو التطبيق الحقيقي لروح الإسلام وليس لحروف الإسلام، وهذا ما فعله عمر بن الخطاب في وقت مبكر جداً، وكما قلت لو أن الفقهاء بدأوا حيث أنتهى عمر بن الخطاب لوفروا الف سنة من المماحكات والمغالطات، والإتجاهات الخاطئة.
**********************************************
"عن المرأة" في حديث مع الشيخ جمال البنا (2)
تأتي الضجة المفتعلة التي أثارتها وسائل الإعلام، ونفخ في نارها شيوخ التأسلم السياسي، حول محاضرة الدكتور حسن حنفي، تأتي لتؤكد من جديد حقيقة الواقع الذي نحياه.
واقع الخوف.
واقع محاكم التفتيش الإسلامية.
محاكم يعقدها شيوخ، أدعوا لنفسهم حق التحدث باسم الدين، كأنهم والدين واحد. رغم أن البعد بينهما واسع.
الضجة قامت بعد أن ألقى الدكتور حسن حنفي، أستاذ الفلسفة الإسلامية، وهو من رواد تيار فكر اليسار الإسلامي، محاضرة في مكتبة الإسكندرية عن "الحرية الفكرية في مصر".
أعتبر البعض أن وصفه للقرآن كـ"سوبرماركت يمكن للمجتهد أن ينتقي منه ما يشاء"، هذا الوصف يدخله في دائرة الكفر.
أكثر ما يذهل المرء في هذه الضجة هو ما قاله أحد شيوخ التأسلم السياسي، المعروف بتكفيره للعديد من رواد الإصلاح الفكري الإسلامي، عندما قال "إنه لم يطلع على هذا الكلام المنسوب لحسن حنفي، لكن من يقوله كافر لأنه يشكك في القرآن الكريم".
الرجل لم يطلع على ما قاله المفكر حسن حنفي، لكنه يكفره على كل حال.
لسان حاله "ليس بين الخيرين حساب، ما دامت المسألة متعلقة بفتوى تخرج الإنسان من دينه، ثم تهدر دمه".
وددت لو بدأنا اليوم بالمطالبة بإصدار قانون يعاقب من يكفر الغير ويهدر دمه، ويجعلها جريمة تدخل صاحبها السجن.
لاحظوا أن هذه النوعية من "الشيوخ" تصرخ كل مرة يحاول فيها إنسان أن يعيد العقل إلى موقعه: إلى الصدارة في التفكير. تصرخ لأنها تدرك أنه متى فعلنا ذلك، متى عدنا إلى العقل، سنسحب البساط من تحت أقدامها، ونزيل الغشاوة عن أعيننا، ونراها على حقيقتها: شيوخ تتمسح بأذيال المال والجاه الديني، لا سلطة لها علينا، ولا تخيفنا بألسنتها الزاعقة النافرة.
فمن حقنا أخوتي أن ننطق بالرأي مهما كان، كما أنه من حقنا أن نتساءل، بغض النظر عن نوع السؤال. فبدون السؤال لن نفكر.
وتبدو المفارقة واضحة بين هذه النوعية من "الشيوخ"، وبين الشيخ جمال البنا، الذي تقبل سؤالي عن القرآن برحابة صدر، رغم تمسكه بثوابته، لم يجفل، كما لم ينتقدني على طرح السؤال. أستمع إليه باهتمام ورد عليه. وسواء أن أقنعني أم لا فقد أسرني بسعة صدره، وعلمه.
فيما يلي الجزء الثاني من الحوار الذي أجريته مع الشيخ جمال البنا:
إلهام مانع: الكتاب الثالث؟
الشيخ جمال البنا: الكتاب الثالث على ظاهرة موجودة في مصر وفي السودان وفي المنطقة، وهي ختان البنات. فهذه جريمة، هناك ناس يقولون إن ختان البنات هي سنة، وأخرون يقولون هي مكرمة، فأخرجنا كتاب تحت عنوان"ختان البنات ليس سنة ولا مكرمة ولكن جريمة"، وأثبتنا فيه أنه لا يوجد له أي إصل في الأسلام، وإن من يقولون هذا أخطأوا. (...)
أما الكتاب الأخير كتاب أسمه "جواز إمامة المرأة الرجال"، هذا تعليق على ماحدث في أمريكا عندما أقامت سيدة الصلاة، السيدة أمينة ودود، وأمت صلاة الجمعة وخطبت، وجاءت كل الفتاوي تكفرها، وأنا أثبت أن هذا جائز لأن الرسول جعل الأحق بالأمامة هو الأعلم بالقرآن، وجعل صبي يؤم شيوخ قوم لأنه كان أكثرهم علماً بالقرآن، وجعل عبدأً أو مولى يؤم كبار الصحابة لأنه كان أعلمهم بالقرآن، وهو سالم مولى أبي حذيفة، إذن المؤهل للإمامة هو العالم بالقرآن فإذا وجدت سيدة أعلم بالقرآن من الرجل فهل يعقل أننا نقدم الرجل الجاهل على المرأة العالمة بحجة أن هذا رجل وهذه امرأة؟ لم يعرف الإسلام هذا التمييز ما بين الرجل والمرأة وخصوصا في مسألة العبادات.
إلهام مانع: أخيراً سيدي ما الحل؟
الشيخ جمال البنا: الحل الحرية أولاً، هذا هو المفتاح، أعطي الحرية كل شيء يبدأ في الحل، ولكن في عالم القيود الناس تتخبط، قاعدين مقفلين عليهم الباب وظلمة، فقاعدين بيخبطوا مش عارفين، ولكن لو أنفتح الباب هتطلع الشمس هيبان النور، هيقدروا يتحركوا وهيقدروا يعملوا، فشرط رئيسي هو الحرية، وبالذات حرية الفكر والإعتقاد، وطبعاً حرية العمل السياسي.
بدون الحرية لن يكون هناك تقدم، بمجرد ما تتعمل الحرية على طول هتتحل المشاكل، صحيح هيكون فيه سين وجيم، وخلاف، ولكن هو ده، يعني أنا في قضية العراقيين في أيام صدام وأيام الأمريكان، أنا كنت نصير لتدخل الأمريكان لأزالة صدام، وقلت إن هذا الرجل ما كان يمكن أن يزال إلا بهذا الأكثر منه رعونة وشر وهو (الرئيس) بوش، هو الوحيد اللي كان يقدر يزيحه من منصبه.
قالوا عملوا، صحيح أن الأمريكان في منتهى الفجاجة ومنتهى الخطأ في السياسة عندهم، ولكن العراقيين بدأوا يتكلموا، قعدوا 30 سنة ما يقدروش ينبسوا ببنت شفه، دخلهم 8 سنوات في حرب، حرب عبثية، ، قتل وفعل الأفاعيل والشعب مش قادر يتكلم، الشعب دولقتي بيتكلم، هو ده المطلوب، صحيح انه بيخبط في بعضه، زي بعضه يخبط في بعضه، وبعدين هينتهي بعد شويه وهيتعلم الدرس، فالحرية أولاً وقبل كل شيء.
لما تيجي الحرية هيبقى حسن فهم الإسلام، والعودة إلى القرآن مع تجاوز المرحلة السلفية.
نحن الآن نقوم بدعوة إسمها دعوة الإحياء الإسلامي، اساسها ما بعد السلفية، سنتجاوز كل المجلدات العظيمة التي ترينها أمامك هنا، كل العلماء الكبار العظام الأئمة المقدسين، ونبدأ من نقطة الصفر، ولكن في يدنا القرآن ويدنا الرسول، وفي يدنا معرفة العصر كله، هذا مد الإصلاح الحقيقي فيما يتعلق بالإسلام.
ويجب أن أقول لك إن كل الهيئات الإسلامية (القائمة حالياً) سلفيون، المؤسسة الإسلامية سلفية، المفكرين الإسلاميين، لدينا عدد من المفكرين عندهم قدر كبير من الحرية، مثل سليم العوا وطه جابر علواني، ولكن رغم ذلك سلفيون، لأن أخر كتبنا وهو "تفنيد دعوة حد الردة" عالجنا فيه مناقشة أراء سليم العوا وطه جابر علواني، هم يقروا أن الردة جريمة ويبقى لها عقوبة، وليس شرطاً أن تكون العقوبة حد، بل تكون تعزير، ولم يستطيعواأن يعالجوها على أساس فقهي، تصوروا أنه فعلاً الفقة الإسلامي سليم لما يقول إن هناك حد ردة، لماذا؟ لأنهم سلفيون، ما يقدروش. ومعالجتي عكس هذا على خط مستقيم.
إلهام مانع: هناك سؤال أخير لا بد أن أطرحه وأرجو أن تتقبله برحابة صدر. يستطيع المرء اليوم أن يقول أننا لا بد أن نعيد النظر في العملية التي تم بها جمع بها السنة النبوية، من الممكن أن نطرح تساؤلات حول هذه العملية ومدى صحة الأحاديث. لكن لا أحد يطرح السؤال حول الكيفية التي تم بها جمع القرآن؟
الشيخ جمال البنا: لا. فيما يتعلق بجمع القرآن أطمئني جدأً، كل ما يثار عنه ليس إلا أقاويل.
إلهام مانع: لماذا؟
الشيخ جمال البنا: القرآن فيه نفس الدليل، "وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن وألغوا فيه"، هذه أية من صورة فصلت، آية مكية، وفي عهد النبي، يعني كان هناك محاولة للغو في القرآن ولكنها لم تنجح بشكل مباشر، لأن القرآن كان على طول بمجرد ما بتنزل آية بيجي الرسول حافظها ويسمعها لأثنين أو ثلاثة من كتاب الوحي.
فالذي حصل بالنسبة للقرآن غير ما حصل بالنسبة لكل الكتب السماوية الأخرى...
إلهام مانع: تم تدوينه وجمعه من قبل صحابة، وما أقوله، أن عملية جمع هذه النصوص تمت من قبل الصحابة، هذه العملية قام بها بشر، والبشر ...
الشيخ جمال البنا: والبشر معروضون للخطأً. لما تكون فيه مقولات غير مخالفة للعقل، ونقول لأ برضه يمكن يغلطوا، وهم بيقولوا كلام صح، يبقى معنى كده مش هنأخذ أي حاجة خالص. ما يغلب عليه الصحة نقدر نقول عنه أنه صح، مع الاحتمال القائم من الناحية النظرية المبدائية. ولكن لما تتعمل لجنة كبيرة في جو حر معين، وهو جو أبو بكر وعمر، فجوهما كان جو حرية، كان الجو الذي يقول فيه الرجل للخليفة لإن لم تحكم بالعدل لقومناك بسيوفنا،..، وهذه مسألة ( جمع القرآن) مقدسة جداً لا يساوم بها، فلو كان فيه حاجة مثل هذه كان لابد أن صار خلاف، والحقائق لا يمكن إخفاؤها.
اللي حصل إيه إن اليهود والمنافقين لم َ لم يستطيعوا أن يلغوا في القرآن بشكل مباشر لهذه الملابسات وضعوا عدد كبير جداً من الأحاديث، فهمتي، كلها (لإثارة اللغط حول القرآن) أنه كانت فيه سورة، إنه لما بدءاوا يجمعوا لم يجدوا سوى هذا، وهذا الكلام أنطلى على المحدثين، وكتبوه في الكتب بتاعتهم، وفيه كتاب إسمه "الإتقان في علوم القرآن" للسيوطي فيه كل الكلام الفارغ ده، كل الهراء هذا. هذا لا أصل له في حقيقة الحال، وأحنا ضروري في السنة بنقول إن تسعين في المائة منها إما ضعيف أو موضوع، وأن كتب البخاري ومسلم محتاجة إلى إعادة.
والدليل على كده أن القرآن كله طبع واحد، سياق واحد، صياغة واحدة، نسق واحد، روح واحد.
نحدد بقى. هذه (تقال) بالنسبة للأحاديث. هذه أكبر عامل من عوامل تأخر المسلمين، لأن هناك عشرات الألوف من الأحاديث تم وضعها، وتمت عملية الغربلة من مئات الألوف إلى عشرات الألوف، ومن عشرات الألوف إلى بضعة ألوف، ولا زلنا في حاجة جديدة إلى بضعة مئات. ولنا مشروع كتاب بعنوان "تجريد البخاري ومسلم من الأحاديث التي لا تؤثم" إذا كان في العمر بقية.