" سيد " على أنقاض " الشيخ "
"حاشد" بدون أولاد الأحمر. منزلهم الرئيسي، الواقع في معقلهم داخل منطقة "الخمري"، أصبح مزاراً لمن يريد قطع الشك باليقين بشأن طي صفحة "عيال الشيخ". وعلى أنقاض قصة الفرار، وتدمير منزل "الخمري"، تنتشر شعارات الحوثي ومسلحوه داخل "العصيمات"، بشكل يؤكد نهاية زمن وبداية آخر في "حاشد".
طوت هذه القبيلة زمن "عيال الشيخ"، لتبدأ صفحة جديدة مع زمن "السيد". بيد أن شبح "آل الأحمر" مازال يُحلق في أرجاء "حاشد"، في انتظار نهاية كاملة له يبدو أن تحققها مرتبط بنهاية نفوذ حلفائه العسكريين والسياسيين والدينيين المفروض على مدينة عمران.
ولئن كان هناك زمن جديد أعلن عن نفسه في "حاشد"، فجبهة الحرب مازالت مفتوحة دون حسم كامل؛ سيما واللواء علي محسن الأحمر، والتجمع اليمني للإصلاح، مازالا يسيطران على مدينة عمران التي يجري الصراع الرئيسي، اليوم، عليها وحولها. مع ذلك، يبدو حسم الحوثيين لهذه الحرب مسألة وقت لا أكثر؛ فالجماعة التي كانت محظورة في "حاشد"، أصبحت تحكم قبضتها على هذه القبيلة، ووصلت "الصرخة" الخاصة بها إلى "ريدة"، التي لا تبعد عنها مدينة عمران إلا أقل من 20 كم فقط. وبالإمكان مشاهدة سيطرة الحوثيين وشعاراتهم على "ريدة"، وتجاوزهم لها نحو "ذيفان"، باتجاه مدينة عمران، والعاصمة صنعاء.
خلال السنوات الماضية، كان الحوثيون محاصرين في أجزاء من محافظة صعدة؛ إلا أنهم أصبحوا اليوم يُحاصرون خصومهم في مدينة عمران، التي يتمركز فيها مقاتلو اللواء علي محسن وتجمع الإصلاح في وضع استعداد قتالي لخوض معركة دفاع مصيرية، لمواجهة الأشباح الذين كسروا حالة الحصار، وبدؤوا بملاحقة خصومهم التاريخيين. يلعب الحوثيون في أرضهم وبين جمهوريهم؛ فيما خصومهم يتقلصون ويذوون في الجغرافيا الزيدية كأي متسلل غريب. وإذ تظهر جماعة الحوثي في "حرب استرداد" مذهبية، يتضاعف انكشاف اللواء علي محسن، ويتجلى، في جانب منه، كنسخة رديئة من يهوذا الاسخروطي.
مازالت "حاشد" تتحسس زناد البندقية، مواصلة سيرتها الأولى كوقود للحروب والاستقواء. مازالت تؤدي وظيفتها كـ"بندق عدل" تكرس حضوره في الوعي العام على ميراث من القوة والغلبة لتحديد من يحكم البلاد؛ ما جعل الشيخ عبد الله يقول: "ما بش إمام يجي من باب اليمن". و"باب اليمن" هنا تعبير عن جهة جغرافية تعني إب وتعز، وما إليهما. والمعنى أن حاكم صنعاء يأتي من الجهة الأخرى: "حاشد"؛ باعتبارها صانعة الرؤساء والحكام! إلا أن ما جرى اليوم لم يضع قوة هذه القبيلة في محل اختبار عملي فحسب؛ بل أجلس ميراثها التاريخي هذا في كرسي هذا الاختبار. هو اختبار بأثر رجعي وضع، أيضاً، الوعي العام ككل في عملية اختبار ذاتية لامتحان مسلماته، وفراغاته الذهنية التي كرستها "أشباح الماضي".
منذ ما بعد 1962، لم توضع قوة قبيلة "حاشد" في عملية اختبار حقيقية، حتى جاء اليوم مقاتلو جماعة الحوثي فأدخلوها في التجربة. وقد كان اجتياح الحوثيين لـ"العصيمات"، وتفجيرهم منزل الأحمر الواقع فيها، في معقله الرئيسي بـ"الخمري"، بمثابة زلزال كبير. ثم كان إخراج "أولاد الأحمر" من "حاشد"، ككل، كأمر غير متوقع ضاعف من وقع هذا الزلزال.
طوال السنوات الماضية، تمكن الحوثيون من التوغل داخل القبيلة الأقوى في اليمن. وعندما حانت ساعة الحسم، ضحت هذه القبيلة بـ"عيال الشيخ". إلا أن ذلك لم يُدشن الزمن الشخصي لـ"حاشد"؛ بل عزز من حضور زمن آخر، هو زمن "السيد".
إلى ما قبل ثورة سبتمبر، كان يقترن حضور "حاشد" في ما كان يُعرف بـ"الجيش البراني"، الذي استخدمه الإمام يحيى، وابنه أحمد، كمليشيات لتدعيم مركزي حكمهما. ما بعد ثورة سبتمبر، نقل الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر قبيلته من دكة "الجيش البراني" إلى كرسي الحكم. وخلال الخمسين عاماً الماضية، ظلت "حاشد" هي "الشيخ"؛ فيما ظلت صنعاء، كعاصمة حكم ونفوذ، هي "حاشد". وبالتوازي مع تغييب هذه القبيلة خلف عمامة "الشيخ"، تم تغييب اليمن، وتحويلها إلى مجرد هامش كبير لمتن صغير اسمه "حاشد". كان "الشيخ" يستخدم "الدولة" لملاحقة وضرب من يُقاوم نفوذه القبلي الداخلي، وحسم أبسط الخلافات مع المحيط القبلي. ولم يكن بإمكان أحد مواجهة قبيلة الرئيس و"الشيخ"، التي لم يكن عليها خوض صراعاتها القبلية الحاسمة اعتماداً على ذاتها، وتحالفاتها غير الرسمية، شأن بقية القبائل. كانت هذه القبيلة هي الدولة، وظلت تتعامل مع الآخرين انطلاقاً من ذلك. لهذا عاظمت نفوذها بالتوازي مع إضعاف "الدولة"، وتدميرها. وعندما جاءت ثورة فبراير 2011، حدث انشقاق داخل هذه القبيلة، وحدث الصراع داخلها بعد أن انتقل جناحاها القبلي والعسكري المؤثران إلى صف الثورة، محاولين استغلالها لإقصاء رأس النظام. وإذ ظهرت قدرة الجناح المنشق على تأديب "صالح" جراء استفراده بالسلطة وإحلال أسرته بدلاً عن القبيلة، كانت التطورات تسير نحو تغيير أعمق من مجرد هذا الصراع الشخصي على السلطة والنفوذ.
كانت علاقة الرئيس السابق، علي عبد الله صالح، وقبيلة "حاشد"، تكاملية: كان يستمد قوته منها، وهي تستمد قوتها منه. إلا أن المنشقين على سلطة حكم "صالح" لم يدركوا ذلك، واعتقدوا أن بإمكانهم إبقاء سيطرتهم على الحكم، وممارسة السلطة وهم يشاهدون "صالح" يغرق بمفرده. وبعد أن تمكن مقاتلو جماعة الحوثي من السيطرة على "حاشد"، استفاقت مراكز القوى القبلية والعسكرية، وأدركت أنها لم تكن تشارك في دفن "صالح" فحسب؛ بل كانت تشارك في دفن نفسها أيضاً. كان رحيل "صالح" يعني فصل حالة التداخل القائمة بين "حاشد" و"الدولة". وبسبب ذلك، وجدت قيادة هذه القبيلة نفسها، لأول مرة، في مواجهة غضب داخلي مسنود بسلاح خارجي تمثل في مقاتلي جماعة الحوثي. حاول "أولاد الأحمر" الضغط على رئيس الجمهورية، عبد ربه منصور هادي، لإشراك الجيش في حربها ضد الحوثيين. بيد أن الرئيس رفض توريط الجيش في هذه الحرب، فكانت النتيجة سقوط "حاشد"، وإخراج "عيال الشيخ" منها.
...
اتجهتُ، صباح السبت الماضي، ضمن صحفيين وناشطين وناشطات، لزيارة منطقتي الحرب في "حاشد"، بمحافظة عمران، و"كتاف"، التابعة لمحافظة صعدة. اتجهت، والزميل مشعل الخبجي، إلى نقطة التجمع: مقر مبنى المكتب السياسي لـ "أنصار الله" (الحوثيين)، في منطقة "الجراف"، القريبة من مطار صنعاء. محاط هذا المبنى بحراسة حوثية وعسكرية. وبسبب التشديد الأمني، تم إغلاق الشارع الرئيسي الذي يمر من أمامه. يقتصر الحضور الرسمي لـ "أنصار الله" في العاصمة في هذا المبنى، المكون من عدة طوابق تُستخدم كمقر للمكتب السياسي للجماعة، وشقق سكنية لعدد من قيادات الجماعة، المتوقع تعرضها لعمليات اغتيالات.
أمام المبنى، وجدت علي البخيتي مبتسماً كعادته. أدخلني، ومشعل، إلى مكتبه، وهناك تبادلنا أحاديث متفرقة عن آخر التطورات الجارية في البلاد. وبعد أكثر من نصف ساعة، بدأت رحلتنا إلى مناطق الحرب الأخيرة في "حاشد"، و"كتاف".
كانت الزيارة إلى صعدة مختلفة هذه المرة. لقد فرضت التطورات حقائق جديدة على أرض الواقع؛ فالحوثيون تجاوزوا مواقع الحصار التي كانوا يتمركزون فيها إلى بداية عام 2011. لم تعد شعارات جماعة الحوثي في "حرف سفيان" وما بعدها باتجاه صعدة؛ بل أصبحت حاضرة في "ذيفان"، القريبة من مدينة عمران. وفي "ريدة" تفاجأت وأنا أُشاهد مسلحي هذه الجماعة في استقبالنا هناك. فوجئت أيضاً وأنا أشاهد الحضور الطاغي لشعارات هذه الجماعة في "ريدة"، الواقعة على مفترق طرق تؤدي الأولى إلى مدينة عمران القريبة، فيما تؤدي الثانية إلى منطقة "خارف"، والثالثة إلى عمق "حاشد"، ثم مديرية "حرف سفيان"، فمحافظة صعدة.
لم أشاهد داخل أراضي قبيلة "بني صريم" أي حضور لمقاتلي الحوثي؛ رغم أن المعلومات تؤكد أنهم يُسيّرون أطقماً دورية في هذه الأراضي وغيرها من أراضي "حاشد". مررنا على أكثر من نقطة عسكرية تابعة للجيش، وشاهدت البؤس مرتسماً على أوجه الجنود، الذين أصبح حضورهم شكلياً في منطقة حرب هم الجانب الأضعف فيها. يظهر الجنود مكسوري الجناح كما لو أنهم في عرض مسرحي هدفه إضفاء مرارة على واقع هزلي تكرس بفعل غياب "الدولة" أمام تعاظم نفوذ المليشيات المسلحة.
يقع "جبل عجمر" كحد فاصل بين أراضي قبيلتي "بني صريم" و"العصيمات"، أكبر قبائل "حاشد". على قمة هذا الجبل يتمركز مسلحون حوثيون، في نقطة أمنية كان يتمركز فيها مقاتلون سلفيون استدعاهم "أولاد الأحمر" إلى المنطقة ونصبوا هنا نقطة لفرض حصار على جماعة الحوثي في صعدة. في أسفل الجبل يتمركز مسلحون حوثيون آخرون، في نقطة أمنية ثانية ورثوا تمركزهم فيها عن مسلحين سلفيين يتبعون "عيال الشيخ". على يمين هذه النقطة آثار خيمة محترقة، قال لنا أحد الحوثيين إن رفاقه أحرقوها خلال المواجهات التي دارت مع مسلحي الأحمر. يطل هذا الجبل على مدينة حوث، التي تقع على منحدر صخري تنبسط أمامه أراض واسعة تقع فيها منطقة "الخمري"، معقل "العصيمات"، التي ينتمي إليها "آل الأحمر".
حضور المسلحين الحوثيين كبير في "حوث" والأراضي المحيطة بها. لقد بدأنا التوغل في "دولة الحوثي"، الممتدة من "جبل عجمر" إلى صعدة. نشوة النصر ظاهرة على مدينة حوث وأهلها. يتحدث الناس هنا عن الحرية، ويتبعون حديثهم بـ "لكل ظالم نهاية". يشيرون إلى انتهاء أعمال التقطع التي كانت تتم في الطريق الرئيسي المار من أمام مدينتهم، والقريب منها. كانت هذه المدينة واقعة تحت سيطرة "آل الأحمر". أكثر من 90% من سكانها "هاشميون"، وإليها تنتمي أسرة الحوثي، التي انتقلت للعيش في "مران" - صعدة. معروف في العرف القبلي حضور مدينة حوث كـ "هجرة" لـ "العصيمات". ومنذ عشرات السنين، عاشت هذه المدينة، وأهلها، تحت حماية "العصيمات"، وقيادتهم المتمثلة في "آل الأحمر".
منذ الحرب الأولى، التي انفجرت عام 2004 في صعدة، شارك العشرات من أهالي مدينة حوث في تلك الحرب لمناصرة حسين الحوثي ضد الجيش. وبسبب هذا الموقف، والانتماء السلالي، دفع أغلب أهالي هذه المدينة ثمناً فادحاً أبقاهم تحت حالات من العسف والظلم لسنوات. لتأكيد ذلك، أخذنا الحوثيون إلى منزلين دمرهما مسلحو حسين الأحمر في رمضان عام 2010. حينها، قتل أحد مسلحي "العصيمات" شخصاً من أهالي "حوث" شارك في القتال في صفوف الحوثيين ضد الجيش وقبائل "حاشد"، في صعدة. تقول الرواية إن هذا المسلح ارتكب الجريمة انتقاماً لأخيه الذي قُتل في الحرب ضد الحوثيين في صعدة. فر القاتل إلى منزل "آل الأحمر" في منطقة "الخمري" القريبة. تجمع أهالي "حوث"، وطلبوا من حسين الأحمر تسليم القاتل إلى الدولة؛ إلا أنه رفض ذلك، وأبلغهم أن من أصبح حوثيا منهم فـ "دمه دم حنش". في الليل هاجم الأحمر مدينة حوث بأكثر من ألف مسلح. حاصر المسلحون عدداً من المنازل، ودمروا عدداً منها. قتلوا شخصين، واعتقلوا أكثر من 86 آخرين.
المنزلان اللذان أخذنا الحوثيون إليهما، ظهر السبت الماضي، هما للعقيد شرف محسن الكبير، وأحد إخوته. مازال المنزلان مدمرين، وعلى أطلال الخراب التقينا بالعقيد الكبير، الذي قال إنه عاد إلى المدينة قبل أيام؛ بعد أن ظل مهجراً في تعز منذ عام 2010. تحدث الرجل عن محاصرة مسلحي الأحمر للمنزلين، ثم قتلهم لأخيه، ثم تفجيرهم للمنزلين.
يقول الحوثيون إن مسلحي حسين الأحمر نهبوا منازل، واستولوا على ذهبٍ من صدور بعض النساء. يشيرون إلى تعرض منازل عدة لحصار من قبل هؤلاء المسلحين. يتحدثون عن إعاقة الأحمر لمشروع المياه، ومنعه لهم من تأدية صلاة الجمعة في مسجد آخر تابع لهم في المدينة، غير المسجد الكبير الذي بناه والده في المدينة. أشار أحد الحوثيين إلى منارة مسجد الأحمر، وقال إن بناء منارته لم يكتمل لأن المتشددين أقنعوا الشيخ عبد الله بعدم استكمالها لأنها بدعة. تناولنا وجبة الغداء في أحد منازل الحوثيين في المدينة، ثم اتجهنا إلى "الخمري".
حضر إلى أطلال المنزلين الشيخ صالح الأحمر، أحد أبناء عمومة الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر. يتمتع صالح الأحمر بظرافة تظهر في حديثه، لاسيما وهو يشكو من ظلم تعرض له هو ووالده من قبل الشيخ عبد الله وأولاده. يقول إن مشيخة "آل الأحمر"، وبالتالي "حاشد"، كانت في جده لأبيه، واغتصبها منه الشيخ عبد الله. يتحدث الرجل عن الظلم الذي تعرض له من أبناء عمومته، ويبدي أسفه لنهايتهم. يحكي كيف أنه غادر منزله، الواقع في مدينة خمر، إلى الحوثيين في "قفلة عذر"، وظل هناك شهورا. يتحدث بمرارة عن جريمة قتل الأسرة الحوثية، المكونة من ستة أشخاص بينهم امرأة، من قبل مسلحي الأحمر، في "مطعم الشرق"، الواقع في مدينة حوث. يقول صالح الأحمر إنه اتخذ على نفسه، يومها، عهداً ألا يسكت عن الظلم. وبعد خلافات عدة، التحق بجماعة الحوثي. وعندما أرسل حسين الأحمر إليه رسولاً طالباً منه العودة، رفض ذلك، وقال إنه لن يعود إلا عندما يتمكن من رفع شعار جماعة الحوثي بحرية على منزله. وتم له ذلك، وعاد، بعد أن جرى إخراج حسين الأحمر، وبقية إخوته، من "حاشد".
أخذنا الحوثيون إلى منزل حسين زيد الحوثي، الذي أحرقه مسلحو الأحمر في ذلك الهجوم، مساء إحدى ليالي رمضان عام 2010. مازال هذا المنزل مهجوراً، وآثار الحريق في كل أرجائه الداخلية. بدأت تلك الأحداث بقتل نجل شقيق حسين زيد الحوثي (محمد مطهر) من قبل أحد مسلحي "العصيمات" داخل سوق مدينة حوث.
ومنذ أشهر، غصت المدينة بآلاف المسلحين الذين خاض بهم "عيال الشيخ" حربهم ضد الحوثي. وخلال الأعوام القليلة الماضية، ازدهرت هنا أعمال التقطع للمسافرين. يقول الأهالي إن المسلحين كانوا يقومون بأعمال التقطع ونهب المسافرين بدعم من "أولاد الأحمر". في 31/8/2013، وقعت أشهر جريمة تقطع، التي أدت إلى قتل 6 حوثيين، بينهم امرأة. كان هؤلاء قادمين من صعدة، وتوقفوا على مدخل مدينة حوث لتناول وجبة الفطور في "مطعم الشرق". دخل إليهم أحد مسلحي الأحمر، وطلب من أحدهم إزالة شعار جماعة الحوثي من على سلاحه الكلاشنكوف. حدثت مشادة انتهت باشتباك قُتل فيه المسلح التابع للأحمر. بعدها، تجمع عشرات المسلحين وحاصروا هؤلاء الحوثيين داخل هذا المطعم. دارت اشتباكات انتهت بقتل هؤلاء الستة الأشخاص. حينها، طلبت جماعة الحوثي من حسين الأحمر تسليم القتلة، وعلى رأسهم شخص يدعى عبد الله باقي عمران؛ إلا أن الأحمر رفض ذلك. تصاعدت الأزمة بين الجانبين، وتفجرت كحرب داخل قبيلة "حاشد"، بين مديريتي "قفلة عذر"، التابعة للحوثي، و"العشة"، التابعة لأولاد الأحمر.
يبدو وكأن الناس تنفسوا الصعداء؛ يُمكن ملاحظة هذا الأمر دون جهد أو عناء. جرى تأمين الطريق ورفع القطاعات القبلية. وتم، وهذا الأهم، ردم هوة التمايز الطبقي الساحق الذي كان يُجسده "عيال الشيخ" على شكل استعلاء وعسف وهيمنة على الناس والفضاء العام في قبيلتهم. لقد جرى إنهاء نصف قرن من الهيمنة؛ بيد أن أطلال هذه الهيمنة مازالت قائمة في النفوس وعلى عتبات الأبواب. لهذا، هناك حالة من اللا يقين، ليس من طي صفحة "عيال الشيخ"؛ بل من المستقبل.
...
عدنا باتجاه "جبل عجمر". وقبل الصعود فيه انعطفنا يميناً في طريق إسفلتي يؤدي إلى منزل الشيخ الأحمر في "الخمري". يبدأ الانعطاف نحو معقل الأحمر برصيف متسع على شكل جزيرة صغيرة، يتوسطها بناء هندسي رفعت عليه لافتة كبيرة كُتب فيها شعار الحوثي (الصرخة). وفي المساحة الأمامية، باتجاه الشارع العام، يقف طقم حوثي عليه مسلحون.
يقطع الطريق الإسفلتي أراضي زراعية، وينتهي هذا الطريق أمام منزل الأحمر. قبل أمتار من الوصول إلى المنزل، هناك نقطة تابعة لمسلحين حوثيين. كان هناك طفل مسلح يجلس على كرسي في وسط الطريق، وإلى اليسار كان مسلحون آخرون قد شرعوا في "تخزين" القات. إلى اليمين، كان هناك كرسي عليه بطانية. أشار أحد الحوثيين إليه، وقال إنه كرسي حسين الأحمر. قال: "هذا كرسي الملك! كان يجلس عليه حسين الأحمر، الذي كان يطلق عليه الجميع هنا لقب الملك". بعد أمتار بسيطة باتجاه المنزل، وجدنا بقايا مكاتب معروضة على يسار الطريق، قيل لنا إنها من بقايا مكتب حسين الأحمر، أخرجها الحوثيون، ضمن أشياء أخرى، من المنزل قبل تفجيره.
دخل الحوثيون منطقة "الخمري" فجر الثاني من فبراير الجاري. وبعد ساعات من ذلك، فجروا منزل الأحمر الواقع هناك. أصبح هذا المنزل ركاما، ولم يبق منه إلا أشجار زينة، ومسجد تظهر منارته من بعيد وعليها شعار جماعة الحوثي. أوقفت السيارة بالقرب من إحدى بوابات المنزل، التي يتمركز فيها مسلحون حوثيون. عبرنا البوابة، فظهر حجم الدمار الذي حدث للمنزل. تم تفجيره بالكامل، باستثناء غرفتين ملحقتين به. على اليمين يمتد خراب بشكل طولي قيل إن هذا المكان كان إسطبلاً للخيول التي كان يملكها أولاد الأحمر. في الجهة المقابلة، يظهر الدمار الذي حل بالمجلس الذي كان يستقبل فيه أولاد الأحمر ضيوفهم.
كان هناك زوار ومسلحون حوثيون يتجولون على أطلال الخراب الذي أحدثته متفجراتهم بالمنزل. على تل خراب يقع وسط المنزل، أخذ عدد من المسلحين الحوثيين يؤدون "صرختهم"، وهم يرفعون قبضات أيديهم اليمنى إلى الأعلى. تذكرت أولاد الشيخ عبد الله، وشعرت بالمرارة التي في حلوقهم. لم يكن أحد يُفكر بهذه النهاية لمسيرة نفوذ وسيطرة أولاد الأحمر في "حاشد".
داخل الخراب، تظهر أشياء خاصة بأثاث المنزل. وفي منتصفه هناك ممر إلى الأسفل تراكمت فيه الكتل الإسمنتية التي فتتتها المتفجرات. وقال أحد الحوثيين إنه بدروم كان يستخدم كسجن. البوابة الرئيسية للمنزل سُدّت جراء سقوط الطابق الثاني عليها، وهو طابق كان مخصصا كديوان استقبال مع ملحقاته، وفقاً لشخص كان يعرف المنزل.
هناك بوابة صغيرة ثالثة تؤدي من المنزل إلى مسجد خاص ملتصق به. على الجدار الداخلي، الممتد على طرفي هذه البوابة، كان هناك مسلحون حوثيون يمضغون القات بين ركام الدمار. لم يتم تفجير المسجد؛ إلا أن تفجير المنزل ألحق به أضراراً: سقوط نوافذه الزجاجية، وحدوث تشققات في جدرانه.
غادرنا أطلال الدمار في منزل الأحمر، فأشار لنا أحد الحوثيين إلى المناطق التي تم منها هجوم مقاتلي جماعته. أشار كذلك إلى خطوط التماس التي كانت المعارك تدور فيها، على مشارف "حوث"، أعلى محطة الغاز، وفي الجبال والتباب المقابلة لها والمنتشرة حولها.
تضاربت المعلومات حول تفجير المنزل. في البداية، أعلن الحوثيون أنهم هم من قاموا بالتفجير، الذي وثقوه بتصوير فيديو قال أحدهم فيه: "باي باي يا حسونة"؛ في إشارة إلى حسين الأحمر، الذي كان يقود الحرب ضد الحوثيين. بعدها قال بعض الحوثيين إن أولاد الأحمر هم من فجروا المنزل. وقال هاشم الأحمر، على صفحته في "فيسبوك"، إن أخاه حمير، ومرافقيه، هم من لغموا المنزل، ثم فجروه. وأمس الأول الأحد، قال محمد عبد السلام، الناطق الرسمي باسم "أنصار الله"، لدى لقائنا به في صعدة، إن مقاتلي جماعته هم من فجروا المنزل. أكد الرجل أن أولاد الأحمر لغموا المنزل قبل أن يخرجوا منه؛ إلا أن مقاتلي جماعته أوقفوا عملية التفجير. وبعد أن فتشوا المنزل وأخرجوا منه وثائق وغيرها، فجروا المنزل.
كان محمد عبد السلام غاضباً من وسائل الإعلام التي ركزت على عملية تفجير منزل أولاد الأحمر، واستخدمتها مبرراً للهجوم على جماعته، متجاهلة أن أولاد الأحمر سبق أن فجروا منازل عدة لمواطنين في مدينة حوث.
وفيما أفاد الناطق الرسمي باسم جماعة الحوثي بأن مقاتلي جماعتهم دمروا المنزل لأنه استخدم لإطلاق الرصاص عليهم؛ أشار إلى أن هناك منازل عدة لأولاد الأحمر في مناطق متفرقة داخل "حاشد"؛ إلا أن جماعته لم تهاجمها ولم تدمرها؛ لأنها لم تتعرض لهجمات من تلك المنازل. وأشار محمد عبد السلام إلى أن ثلاثة من مقاتلي جماعته سقطوا أمام منزل الأحمر في "الخمري"؛ إلا أنه رفض إعطاء رقم لإجمالي القتلى والجرحى، الذين سقطوا من جماعته خلال الحرب من أولاد الأحمر. قال إنه ليس لديهم حتى الآن إحصائية بذلك؛ غير أنه استدرك: "قتلاهم هم (مقاتلي أولاد الأحمر) بالمئات".
وفقاً لمحمد عبد السلام، فقد تمت عملية اقتحام منزل الأحمر خلال عملية هجوم استمرت نحو 24 ساعة فقط. وأشار إلى أن مقاتلي جماعته سبق أن نفذوا، قبل أيام من عملية الاقتحام هذه، هجوماً وصلوا فيه إلى مشارف "الخمري"؛ إلا أنهم انسحبوا بأمر من عبد الملك الحوثي الذي أتاح فرصة للجنة الوساطة، وكان يطالب فقط بتأمين الطريق، وضمان الحرية الفكرية والدينية لأبناء حوث. حسين الأحمر رفض ذلك، فتجددت الحرب التي انتهت بإخراجه، وإخوته، من "حاشد".
...
أصبح الطريق آمنا، خاليا من تقطعات المسلحين، الذين يقول الحوثيين إنهم كانوا يمارسون أعمال التقطعات تلك بدعم وحماية من أولاد الأحمر. اتجهنا خارج مدينة حوث باتجاه صعدة. توقفنا أمام "مطعم الشرق"، الذي رُفعت عليه صور بعض القتلى الحوثيين الذين قتلوا فيه، قبل نحو سبعة أشهر. حضور الحوثيين كثيف هنا. وأمام هذا المطعم توقفت سيارات عدة، وكان مسلحون حوثيون يتأملون هذا المطعم ويصورونه.
على مخرج مدينة حوث، تنتصب نقطة حوثية يتمركز فيها مسلحون برفقة شعاراتهم. وفي وادي خيوان عاد حضور شعارات جماعة الحوثي. وأشار أحد رفاقنا في الرحلة إلى منزل يقع على الخط العام، قال إنه كان سبب الخلاف الرئيسي مع حسين الأحمر. شعار جماعة الحوثي مكتوب على مساحة كبيرة من هذا المنزل "بيت الرحابي"، وعلى مبنى تابع للأسرة ذاتها يقع في الناصية الأخرى للطريق العام. طبقاً للمصدر الحوثي، فقد غضب حسين الأحمر من ذلك، وحاول إخراج هذه الأسرة من المنطقة، فتصاعد الخلاف وتفجرت الحرب.
يقع وادي خيوان في المناطق الحدودية، الواقعة بين "حاشد" و"حرف سفيان". وإلى يمين الطريق الإسفلتي، يقع هذا الوادي ويمتد إلى الداخل بين الجبال. خصوبة هذا الوادي واضحة، وأمكنني مشاهدة "قصبة" حسين الأحمر (مبنى كبير كاستراحة وموقع حراسة)، داخل الوادي، وتظهر آثار الدمار الذي لحقها جراء تفجير الحوثيين لها في الحرب الأخيرة. وأنا أشاهد هذا الوادي تذكرت مقولة: "ما مثل خيوان وادي، ولا مثل صنعاء مدينة". على هذا الوادي يمتد الجبل الأسود، الذي تتمركز فيه قوات كبيرة للجيش يكاد يكون حضورها غائباً إلا من نقطة عسكرية تتمركز رأس الجبل، وسط الطريق.
يأخذنا الطريق هبوطاً نحو قاع "حرف سفيان" الخصب. آثار الدمار مازالت باقية على منازل "الحرف"، كما زرتها قبل سنوات. حضور جماعة الحوثي كبير هنا، بنقطتين للمسلحين، وشعارات عدة. على طول الطريق إلى صعدة، تتمركز نقاط عسكرية محدودة للجيش، وعدد أكبر لمسلحي الحوثي. قوات الجيش خاملة مقارنة بمسلحي الحوثي، الذين أصبحوا يميزون نقاطهم المسلحة عبر طلائها باللون الأخضر، إلى جانب رفع شعاراتهم، وصور حسين الحوثي. بدلاً من البراميل، بنى الحوثيون لأنفسهم مقطورات حراسة بالاسمنت مظللة في نقاطهم المنصوبة في الشوارع الرسمية.
- الصورة تظهر جانباً من الدمار الذي لحق بمنزل الأحمر في "الخمري"- "الشارع"