شركة عدن للأمن والسلامة

  

تقارير
اقرا ايضا

جدلية العلاقة بين الاقتصاد والتغيير السياسي بعد الثورات

عدن اليوم/السياسة الدولية د. خالد حنفي علي | الاثنين 28 يناير 2013 02:54 مساءً

إذا كانت العوامل الاقتصادية قد لعبت دورا في نشوب الثورات في دول الربيع العربي، فإنها تمارس القدر ذاته من التأثير، وربما أكبر في مراحل التغيير السياسي بعد الثورات، لا سيما وأنها تحدد طبيعة النتائج الثورية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، من خلال تأثيرها في شبكات المصالح الاقتصادية ذات التأثير السياسي داخل المجتمع، فضلا عن أنها تلعب دورا مؤثرا في تثبيت أو اهتزاز شرعية الأنظمة السياسية الجديدة في دول الربيع العربي التي لا يزال يؤرقها السؤال المطروح في الشارع: "هل نحن أفضل حالا بعد ثورات الربيع العربي أم لا؟".

ولئن لخص البعض الإجابة على هذا التساؤل بتردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، في مراحل ما بعد الثورات العربية، لا سيما مع تراجع مداخيل السياحة، وزيادة عجز الموازنة، وارتفاع البطالة، والدين الداخلي، فإن آخرين يجادلون بأن إزاحة الاستبداد منجز ستتبعه حتما طفرات اقتصادية، عندما تعبر تلك المجتمعات حالة الارتباك وعدم اليقين في مراحلها الانتقالية، وتستقر أبنيتها السياسية والاقتصادية، والعلاقات بين سلطاتها.

على أن هذا الجدل ما بين طبيعة الواقع الاقتصادي المتدهور، وانتظار تحقق الوعود، يستدعي فهما لما آلت إليه أدبيات العلاقة بين العوامل الاقتصادية والتغيير السياسي، إذ يمكن رصد ثلاثة اتجاهات رئيسية، أبرزها:

- الاتجاه الأول- "التنمية أولا": فإذا كان كارل ماركس قد رسخ لمنطق أن علاقات الإنتاج تؤسس للتغيير السياسي، وتقود إلى مسارات حتمية للتاريخ، فإن عالم الاجتماع الشهير، مارتن سيمور ليبست، بلور قبل عدة عقود نظرية التنمية أولا، عندما رأي أن تحقيق تطور اقتصادي يؤدي إجمالا إلى بناء طبقة وسطي ذات دخل متوسط، تسهم في تعزيز التحول نحو التغيير السياسي والديمقراطية. إلا أن ذلك المنطق مني بالفشل، لا سيما بعد أن تم استخدامه لتبرير قيام أنظمة تسلطية، خاصة في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، ولم تنجح تلك الأنظمة لا في تأسيس تنمية حقيقية، أو عدالة مجتمعية، ولا بلوغ التحول الديمقراطي، اللهم إلا باستثناء نماذج قليلة في أوروبا.
الأمر الآخر أن الطبقة الوسطي، التي ظل ينظر لها كمحدد للتغيير السياسي وطبيعة مساراته، أصيبت بأضرار بالغة جراء سياسات الإصلاح الاقتصادي المفروضة من مؤسسات التمويل الدولية، والتي عمقت الفجوات المعيشية داخل المجتمعات بين الفقراء والأغنياء، وجعلت عوائد التنمية في أيدي ثلة من رجال أعمال متحالفة مع المؤسسات الأمنية، الأمر الذي ساعد على تغيير الطبيعة "الاستقرارية" للطبقة الوسطي، وجعلها تفضل "التغيير المكلف" على "الاستقرار الهش" الذي يدفعها نحو الانزلاق الاقتصادي والاجتماعي إلى أسفل السلم الطبقي. ولعل تلك التحولات القيمية والدافعية للتغيير في الطبقة الوسطي لعبت دورا مهما في ثورات الربيع العربي، خاصة مصر وتونس.

الاتجاه الثاني- "الديمقراطية أولا": إذ أعاد علماء، أمثال سيفل ووينستين وهالبرين، طرح المعادلة التنموية بمنطق مقلوب، برفع شعار الديمقراطية أولا، معتبرين أن الديمقراطيات الفقيرة تتفوق في أدائها على الحكومات التسلطية، لا سيما مع وجود مبدأ المحاسبة بين السلطات داخل الدولة، بغية الوصول إلى خدمة المصالح العامة. أما النظم السلطوية، فإن الاحتكار السياسي عادة ما يتحول إلى احتكار اقتصادي، مما يضعف من الفعالية الاقتصادية، ويزيد من غضب الفقراء. كما أن الديمقراطيات الفقيرة أكثر انفتاحا ومصارحة مع شعوبها، وبالتالي تستطيع تصويب الخيارات الاقتصادية بشكل أكبر بكثير من الحكومات التسلطية التي تضعف فيها القدرة على التصحيح، الأمر الذي يوقعها في أخطاء سياسية واقتصادية.

- الاتجاه الثالث- المعادلة المتوازنة: وأسس هذا الاتجاه بنيامين فريدمان في كتابه الشهير "التبعات الأخلاقية للنمو الاقتصادي The Moral Consequences of Economic Growth، حيث رأي أن زيادة الدخل بشكل مستمر عامل رئيسي للحفاظ على ديمقراطية شاملة. وبالتالي، فإن العلاقة بين الاقتصاد والتغيير السياسي تسير بشكل متواز ومتوازن، فلا يمكن عزل أحدهما عن الآخر.

ويفسر فريدمان في كتابه تلك المعادلة المتوازنة بالإشارة إلى أن القيم الديمقراطية في الدول الغنية عرضة للخطر، عندما تقل فيها معدلات الأجور لفترة طويلة. فمجرد كون الدولة غنية لا يحميها من تقهقر مجتمعها إلى التعصب والعنف، عندما يفقد عدد كبير من الناس إحساسهم بالتفوق المادي. ويري أنه في فترات الانتعاش الاقتصادي، يصبح المجتمع أكثر انفتاحا وديمقراطية، بينما في حالات الركود وعدم الاستقرار الاقتصادي يصبح أكثر توترا وعنفا وظلما للأقليات. وعلى ذلك، فإن العلاقة بين التنمية والتغيير الديمقراطي تنطوي على تأثير متبادل. فكما أن الديمقراطية توفر الإطار المحفز للتنمية، فإن التنمية كذلك تخلق مناخا مواتيا لتطور الديمقراطية.

البعد المفقود في الربيع العربي:

إن إدراك سياسة المسارات المتوازنة بين التنمية وعمليات التغيير السياسي لا يزال يشكل بعدا مفقودا في دول الربيع العربي. فرغم الإقرار بأن العوامل الاقتصادية ليست وحدها التي أشعلت الربيع العربي، لا سيما مع وجود دوافع متداخلة من غياب الحريات، وإهانة الكرامة، وغياب العدالة الاجتماعية، والتهميش الاقتصادي والمناطقي، فإن مرحلة ما بعد الثورات العربية شهدت انغماسا في صراعات التغيير السياسي بمشتملاته من دستور وانتخابات وغيرها، مقابل سوء إدارة للتحديات الاقتصادية للمراحل الانتقالية، الأمر الذي خلف احتجاجات واعتصامات وتراجعات في القطاعات الاقتصادية. لقد بدا أن هناك فجوة بين التطلعات الاقتصادية لمجتمعات ما بعد الثورة الساعية لمواجهة معضلات الفقر والبطالة وتحقيق العدالة الاجتماعية، ومدي قدرة الأنظمة الجديدة على طرح رؤية لخروج المجتمعات من أزمتها الاقتصادية، وعمق من ذلك "الوعود السخية" التي أطلقها القادة الجدد في الربيع العربي لمغازلة مجتمعاتهم، دون إدراك لحجم التحديات الاقتصادية.

ومن هنا، بدا أن هنالك إشكالات اقتصادية ذات طبيعة هيكلية في مراحل ما بعد الثورات، من أبرزها:
 

- غموض وارتباك السياسات الاقتصادية في مراحل ما بعد الثورات، إذ إن ثمة ترددا ما بين العودة لانتهاج سياسات اقتصادية، ما قبل الثورة القائمة على تحرير الاقتصاد، والانفتاح على الاقتصادات العالمية، والاستثمار الأجنبي، بلا ضوابط أو مراعاة للمصالح الوطنية، وبين العودة لممارسة الدور المهيمن للدولة لوظائفها التنموية لمواجهة متطلبات العدالة والفقر والبطالة. ولعل أبلغ مثال على الارتباك الاقتصادي عندما تم إصدار قرار بخصوص الضرائب في مصر، ثم سحبه الرئيس بعد ساعات. فلا تزال الرؤي الاقتصادية -سواء في مصر أو تونس- تدور في فلك الماضي، دون طرح رؤية للخروح من أسر الاقتصاد الريعي (كالاعتماد على مداخيل السياحة، وقناة السويس، وتحويلات المهاجرين لتغطية عجزها التجاري).

ولعل دراسة لمعهد كارنيجي تفصح قليلا عن هذا الغموض في السياسات الاقتصادية، بالاشإرة إلى الرؤية الاقتصادية الرمادية للتيارات السياسية الإسلامية، حديثة العهد بالسلطة في دول الربيع العربي، فهي تميل نحو خيار "السوق الاجتماعي" كحل وسط يوازن بين الدور القوي للدولة ومصالح القطاع الخاص، ومراعاة الاندماج في الاقتصاد العالمي. في الوقت نفسه، لا تميل تلك التيارات في الاقتصاد إلى الحلول الثورية التي تغير من طبيعة المعادلات الاقتصادية القائمة، كأن تضيق على القطاع الخاص، أو تؤمم قطاعات اقتصادية بعينها لتدعيم دور الدولة.

- مدي القدرة على مواجهة شبكات المصالح الاقتصادية ذات الطابع الاحتكاري في المجتمع. فرغم أن مرحلة ما بعد الثورات تشهد محاولات لتفكيك تلك الشبكات التي تحتكر قطاعات اقتصادية، وتهيمن على تدفقات الاستثمار، فإن الهاجس يظل  دوما أنه في ظل غياب رؤية اقتصادية واضحة، أو قرارات اقتصادية ذات طابع يلائم مراحل ما بعد الثورات، عادة ما تتساوم تلك الشبكات القديمة مع رجال أعمال موالين للأنظمة الجديدة لاقتسام "عوائد الاحتكار"، أو القيام بإحلال احتكاري لرأس المال.

- مدي القدرة على استيعاب المد الاحتجاجي ذي الطابع الاقتصادي، خاصة من المناطق المهمشة اقتصاديا. ذلك أن أجواء التغيير السياسي تخلق قدرة أكبر على التصعيد من قبل الفئات الفقيرة، في حال لم تشعر بتحسن اقتصادي. ولعل ما حدث في سليانة، ومن قبله سيدي بوزيد وقابس، وغيرها في تونس من احتجاجات دامية، جاء اعتراضا على السياسة الاقتصادية التي لم تواجه واقع الفقر، والاختلالات التنموية، والتهميش الذي تعيشه المناطق الداخلية.

- اللجوء إلى "الحلول السهلة المكلفة للفقراء"، والمتمثلة في القروض الدولية لمواجهة أزمة الديون، وعجز الموازنة، كما حدث في مصر وتونس دون طرح رؤية لزيادة الإيرادات العامة للدولة، ودفع الناتج المحلي الإجمالي، بالرغم من إدراك أن ثمة مشروطيات اقتصادية باتت تشكل عبئا سياسيا على الأنظمة الجديدة. علاوة على أن انتهاج اقتصادات السوق لم يعد ضامنا للتحول السياسي، في ظل الأزمة العالمية للرأسمالية. وبالتالي، فالأمر سيختلف عن تجارب دول أوروبا الشرقية، خلال التسعينيات، التي انتقلت من أنظمة اشتراكية تعتمد على الاقتصاد الموجه، وتحد من المبادرة الفردية، والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، إلى اقتصاد السوق.

- إن التعثر "السياسي" في المراحل الانتقالية بعد الثورات، وعدم حسم ملف الاستقرار الأمني، يخلقان عادة بيئة اقتصادية غير آمنة للاستثمارت، ويعيق تدفق رءوس الأموال، ويقلل حتى من ثقة مؤسسات التمويل الدولية في اقتصادات دول الربيع العربي، وبالتالي فالعودة للحالة الطبيعية سياسيا تعقبها إمكانية جذب الاستثمارات ورءوس الأموال. ورغم أن المشروعية السياسية لأنظمة ما بعد الثورات قد تكفل مواجهة تلك الإشكالات الاقتصادية، فإن التخوف من ردات الفعل الاجتماعية والمستثمرين وطبقات رجال الأعمال كبل الأنظمة الجديدة، ودفعها نحو الغموض الاقتصادي، أو على الأقل تسويف "المشكلات الاقتصادية"، الأمر الذي قد تدفع ثمنه سياسيا، لا سيما وأن عدم وجود تحسن اقتصادي ملموس قد يدفع الفئات السياسية التي ساندت الأنظمة الجديدة للتخلي عنها.

إن هذا الجدل "المتداخل" بين الاقتصاد والتغيير السياسي ما بعد الثورات لهو ما سعي ملحق" اتجاهات نظرية" إلى سبر أغواره وعلائقه وتحولاته، انتهاء بتقويمه، عبر محاولة طرح عدة تساؤلات، من أبرزها:

- ما هي أبرز الاتجاهات النظرية المفسرة لتأثير المتغير الاقتصادي في مراحل التحول السياسي بعد الثورات؟، وما مدي تأثير هذا المتغير في طبيعة القوي الاجتماعية، مثل الطبقة الوسطي ورجال الأعمال والفقراء وغيرها في مرحلة ما بعد الثورات، وبالتالي تشكيل النتائج الثورية، أو النكوص عنها؟، وهل ثمة علاقة بين تبني نظريات التنمية ونمط التحول السياسي في مراحل ما بعد الثورات؟.

- وإلى أي مدي يسهم النظام الاقتصادي العالمي وأدواته، خاصة المساعدات في التأثير في التحولات السياسية في مراحل ما بعد الثورات؟ وإلى مدي أسهم تبني العسكريين لنظريات تنمية في التأثير في مراحل التغيير السياسي؟، وكيف تلعب العوامل الاقتصادية دورا في إنجاح أو إفشال مراحل ما بعد الثورات؟.

لقد حاول الملحق، عبر موضوعاته التي كتبها متخصصون في الاقتصاد السياسي، الإجابة على تلك الاستفهامات، فيطرح د. عمرو عدلي العلاقة النظرية بين النماذج التنموية وأجيال التغيير السياسي الثوري، خالصا إلى رؤية تقويمية حول مسارات العلاقة، ومحددات تبني سياسات اقتصادية معينة بعد الثورات. بينما سعي الدكتور مازن حسن إلى قراءة ارتباطية نظرية بين إدارة التحديات الاقتصادية والتغيير الثوري. أما الأستاذ محمد عبدالله يونس، فطرح تحليلا معمقا لدور العسكر في التنمية وأثره على التحول السياسي، فيما سعت الدكتورة هناء عبيد إلى تحليل طبيعة المتغير الاقتصادي الخارجي، وما يحمله من تفاعلات مؤثرة في مراحل ما بعد الثورات. واختتمت الأستاذة عبير ربيع الملحق بتقويم عام لكيفية تأثير الأوضاع الاقتصادية في دول الربيع العربي في مراحل التحول السياسي بعد الثورات.

(*) تقديم ملحق " اتجاهات نظرية" ، مجلة السياسة الدولية ، العدد 191، يناير 2013