قراءة في ديوان "عصفور الجنّة" للكاتبة اللّبنانيّة "صونيا عامر"
تقرأ ديوان "عصفور الجنة"[1] للكاتبة اللبنانية "صونيا عامر"، فيدخلك الحلم إلى جنّة عفويّة الملامح، تلقائيّة المعالم، تنصت فيها إلى براءة روح تتجوّل في جنّتها الخاصّة، وترى عناقيدَ تتلألأ بالمشاعر المتأرجحة بين الفرح والحزن، الحيرة والعزم، البعد والاقتراب. ويتراءى لك نسيم يهبّ من قرية ما في الجنّة فيسرّب لك عبق رائحة الخبز، وأريج القهوة الّتي تمنحها الكاتبة طقوساً خاصّة بجنّتها.
وإذ تتجوّل في نواحي الجنّة، فإذا بك تعبّ دفء الحنين إلى الأحلام الجميلة وتستنشق عطر الرّؤى فتسبح في خاطر الكاتبة، حيث التّنين يتحوّل وردة متوحّشة ويختلط طعم القهوة باليانسون. وتخطفك حلاوة السّكّر المتقطّر من قلبها لتتوق معها إلى أرض عذراء، نقيّة، خالية إلّا من أناشيد الطّبيعة.
وتبحث عن روح الكاتبة الحاضرة بقوّة بين سطور البساتين ورحيق العشب الأخضر، فتتجلّى لك في عصفور يختصر جنّتها بقلبه الرّقيق العذب، ثمّ يتحوّل إلى جوقة بلابل تنشد المستقبل. وتسافر معها في رحلة البحث عن ذاتها فإذا بك تحاول حلّ لغز حبر سرّيّ ارتوى منه كتاب وجدها، فترسم لك الكاتبة وحدة ذاتين متقاربتين متباعدتين، تلوّنها بتساؤلات تخلص إلى العودة من نقطة البدايات، وكأنّ الكاتبة تلوّح للقاء أبديّ بدأ ولن ينتهي. ولكن العقل يتسرّب إلى حناياه ليطرح الشّكوك، إلّا أنّ القلب المفعم بنسيمات جنّة "صونيا عامر"، يفيض من النّقاوة ما يكفي لرحلة بين الأبد والأزل حيث لا يكون اللّقاء إلّا امتداد اللّابداية واللّانهاية.
وإن أربك سمعك ضجيج نفذ من خارج الجنّة، أو جلبة أقلقت قلبك فاهتزّ، وحار بك العقل، تعيدك الكاتبة إلى يقين الجنّة بتطويع التّعابير. فهي إذ تقسم بعينيها بأنّ حبّها أكيد، وتعاين ذاتها في داء قلب حبيبها من شدّة الحبّ، يتسرّب من يراعها موسيقا ترتسم، ولوحات يُنصَتُ إليها.
وتطرق السّمع فتسمع الخرساء تنشد حكمتها: "حلو الخيال ما لامس حدّ الجنون، كما وللواقع مرّ البصمة". ويحرق أنفاسك شجن الحنين فتستحيل الدّموع أوراقاً صفراء تهطل من مقل الذّكريات. تقرّر أن تستريح فتأبى الكاتبة إلّا أن تزيدك من عفويّتها وتلقائيّتها لتضحك كالأطفال وتعبّر عن لذّة بعثتها حبّات من جوز الهند آذت رأس من تعمّد الابتعاد، إلّا أن الحرقة تبزغ من بين الأسطر لتدلّك على حبّ فاق التوقّعات وخلص بها إلى حلّ يدخلها في حالة اللّاوضع واللّاوجود.
وللجمال طابع خاص في جنّة الكاتبة "صونيا عامر"، إذ تخطّه بـ"حسن يوسف"، فتبني في خيالها بيتاً من ورود حمر، وشمس من نور وجمر، قرابة شطّ من رمل وبحر. وكأنّي بها تصنع ورودها الخاصّة وشمسها الخاصّة وشطّها الخاص، فأحمر ورودها غير الّذي نعرفه، ونور شمسها غير الّتي عهدناها، ورمال بحرها يلتقيان عند شطّ غير الّذي اختبرناه.
في خيالات "صونيا عامر"، عاشقة تبتغي الحياة وهي ترنّم حبّها قائلة:
"جلّ ما أطلبه هو أن أموت اليوم
على غد أنت به تحييني"
فيقودك الكلام إلى قلب الكاتبة العاشقة حيث البوح والإنصات جلّ مطلبها، فتبوح بصدق وهّاج لفارس لا تبتغي منه سوى الإنصات. وفي خيالاتها "أمس قريب" ينعم بدفء النّجوم المتّقدة، وقمر لا يعرف من أيّامه إلّا الاكتمال، وقرب يغازله التّفاهم والاهتمام.
تجيد الكاتبة استفزازك وتبتغي منك الدّهشة، في مكالمات تمنحك فيها فرصة التّخيّل، والسّرحان في هاتفين نقّالين أدّيا واجبهما في نقل رسالة، وأشعلا في كاتبتنا مشاعر وانفعالات متناقضة. فتهّم في التهام الأسطر حتّى إذا ما وصلت إلى النّهاية وفتحت عينيك على ما تتوقّعه جواباً، تصدمك بتساؤل: "هل حقّاً تلقّيت المكالمات؟"؛ ولك أن تتخيّل!
وتكمن قوّة تأثير الكاتبة على من يتتبّع خطواتها في الجنّة، في سهل ممتنع يمنح الكلمات عمقاً يتطلّب منك متابعتها خطوة خطوة كي تصل معها إلى مبتغى المعنى. فكأنّك ترنو إلى لوحة وتتبّع خطوطها وتدرّج ألوانها لتنعم في داخلك بالمعنى دون أن يلفظه لسانك. هو أشبه بإدراك داخليّ لمقاصد المعاني. وتشعر بقربك من الكاتبة، وكأنّها هي من تتلو عليك دررها مباشرة، إذ إنّها تختصر المسافة إليك بتعابيرها البسيطة والعفوية وبقدرتها على استفزاز ابتسامتك، واستدراج دهشتك، وإثارة تساؤلاتك.
الكاتبة "صونيا عامر"، ذهبيّة القلب، واضحة الملامح بعفويّة الأطفال وتلقائيّة الحياة، تطير بك على بساط الرّيح وتدعوك إلى عيد له أوقات أخرى، ينبت فيها النّور من السّمّ، وينحرف فيها العقل عن المسار فتدهشك روعة المشهد، وتتبيّن لك حياة سعيدة نالتها الكاتبة طالما أرادت ذلك. حياة مليئة بالتّساؤلات والتّحدّيات، في جنّة متفرّدة، لا مثيل لها ولا تشبه جنّة من جنان عرفها خيالك، لأنّ الكاتبة "صونيا عامر" لا تشبه أحداً، كما أن "عصفور الجنة" ديوان له مذاق خاص.