عن الجنرال العجوز
من الواضح، كما تقول إشارات كثيرة، أن التعديل الأخير لمبادرة ولد الشيخ أفرد مكاناً خاصاً للجنرال علي محسن الأحمر، نائب الرئيس. يفهم علي محسن مجتمع الشمال، ولكنه لا يجيد الحرب. لم يكن بحاح يفهم مجتمع الشمال ولا كان يجيد الحرب. الميزة الافتراضية الخاصة بمحسن، درايته بمجتمع الشمال، لم تنتج أي مكسب حتى الآن. فلم نشهد انشقاقاً عسكرياً تاريخياً عن الحوافيش، ولا انحياز قطاعات قبلية أو جغرافية إلى جانب فكرة الدولة الجمهورية. وميدانياً فالاختراق العسكري الذي سيغير قواعد اللعبة في الشمال لم يحدث بعد. بقيت المعارك الدائرة في نهم وصرواح مرتبطة إلى حد بعيد بزيارات ولد الشيخ إلى المنطقة. وهي أقرب إلى حروب التحريك منها إلى حرب التحرير.
ربما نجح محسن، مع التحالف العربي وقادة آخرين، في تشكيل جيش جديد بالمعنى العسكري في مناطق الشمال. على خلاف ما يجري في عدن، فالحزام الأمني ليس أكثر من حشد كبير بلا أرقام عسكرية ولا سجلات دائمة، ولا رواتب وفقاً لتوصيف وظيفي قانوني. يحصل آلاف المجندين في عدن على رواتب تشبه الأجرة اليومية، وثمة ممانعة من جهات ما ضد دمج أولئك المجندين داخل جيش يتبع الجمهورية ويخضع للقائد الأعلى للقوات المسلحة.
لم ينجح محسن ورفاقه القادة في صناعة انتصارات عسكرية رغم الرقم "ستون ألف جندي". كأنه جيش أعد لمهام غير عسكرية، وهو عرضة للموت والإبدال كما يحدث في المنطقة العسكرية الخامسة وفي صرواح. مؤخراً أفنى صاروخ حوثي كتيبة كاملة من الجيش كانت في مسجد، وتجاوز القتلى والجرحى الرقم ١٠٠. لم يخسر الحوثيون حتى الآن مثل هذا العدد من المقاتلين في ضربة واحدة. المنطقة العسكرية الخامسة خسرت أكثر من مرة بطريقة مماثلة، ولولا الحماية الجوية التي يوفرها التحالف العربي لكان الحوثيون قد كسروا تلك المنطقة. وكما تقول يوميات المعارك، فالمنطقة العسكرية الخامسة بُنيت كجدار صد، لم تكن مهمتها صناعة انتصارات.
هناك جيش جديد، وهذا خبر جيد بالنسبة لأي فكرة عن الجمهورية. هذا الجيش يتحرك ضمن نظام واضح، ونظرياً يعمل لأجل استعادة الدولة والجمهورية. لكن الأمر ليس كذلك تماماً. لم ينجح هادي ومحسن، معاً، في تشكيل جيش واحد. حالياً يتأسس جيشان بنظامين منفصلين، وعقيدتين عسكريتين متناقضتين: في الشمال والجنوب. كانت هذه واحدة من المهام غير القتالية التي يتوقع أن ينجزها الرئيس ونائبه، ومعهما التحالف. لكن الرجلان لم ينجحا في هذه المهمة، ولا يبدو أنهما جاهزان لإنجاز مهمة معقدة كهذه. يغني الرجلان أغنية واحدة بلحنين مختلفين، ولكل منهما كورال خاص. ولأنهما تصدران في الوقت نفسه فقد أفسدت أغنية الرجلين المشهد.
انتقال القوات العسكرية من عدن إلى المخأ، وهما جغرافيتان تقعان داخل المنطقة العسكرية نفسها، قال عنه محافظ عدن أنه ضمن التزام "الجنوب العربي" بالأمن الإقليمي العربي. في رؤية محافظ عدن فإن دولته، مع دول عربية أخرى، تعمل على إخماد بعض المخاطر الأمنية الموجودة في منطقة جغرافية مجاورة لا يتذكر هو شخصياً اسمها!
تعديل ولد الشيخ المتعلق بالجنرال مُحسن ليس اختراقاً فلسفيا، ولا تفاوضياً. حالياً، فالجنرال مُحسن مجرد ضابط كبير في مشروع لجيش تائه، أو لنقُل: قيد التشكل. يساعد محسن على بناء الجيش باستخدام الآلية القديمة نفسها، وهو ما يجعل من الجيش الجديد يبدو في بعض حالاته كما لو كان عملية خداع جديدة ، كسابقتها.
خروج محسن من المشهد العبثي الراهن هو خسارة لمحسن، وليس مكسباً للسلام. أما بقاؤه واستمراره فهو مكسب لمحسن، وليس خسارة لمشروع السلام. الأيام التي كان مُحسن يصنع فيها فارقاً كبيراً، وجوده وغيابه معاً، صارت جزءاً من الماضي. لم ينجح محسن في إحداث اختراقات كبيرة داخل حزام القبيلة والمذهب في شمال الشمال. المهمة التي افترضناها قبل أكثر من عام، وهي أن يمنح محسن الراغبين في الاستسلام فرصة لاستسلام مشرف، لم ينجح فيها محسن بدرجة يمكن وصفها ب"game changing". أما صعود الفرضة، وهي واحدة من المعجزات القتالية، فلم يصنعها التخطيط العسكري العبقري، بل مقاتلو قبائل شجعان انحاوزا لفكرة غائمة عن الجمهورية ودولة كل الناس. فالجيش الذي لا يزال يقاتل بالقرب من قلعة "ميدي" منذ حوالي ٦٠٠ يوم ليس جاهزاً بعد لإنجاز معركة استثنائية مثل صعود سلسلة جبال فرضة نهم. لقد صنعها المقاتل الفرد، إلى جوار أخيه المقاتل الفرد. بعد ذلك جاء القادة والتقطوا سلسلة من الصور، ثم اختلف المقدشي وهاشم الأحمر، وترك الأخير الجيش وخلع البزة العسكرية وغادر إلى الخليج.
لكن محسن الآن ضابط في الجيش اليمني. وهو وضع أفضل بكثير مما لو كان الآن يقاتل إلى جوار طارق صالح وأبو علي الحاكم، ويوزع قواته في الحوبان والمخأ. لكي يغادر محسن المشهد لا بد أن يغادر أحمد علي صالح ووالده هذا المشهد أيضاً. يبدو هذا عرضاً مقبولاً، وبلا مارشات عسكرية. فالجنرال الجمهوري العجوز، الذي لم يعد قادراً على صناعة أي نصر، ليس للعرض المجاني. لقد حصل الحوثي على الكثير من العروض المجانية سابقاً، ومنها تقديم محسن والفرقة المدرعة قرباناً للرضا السلالي الطائفي. وقد نال ذلك وحصل على الجنرال محسن الذي فر من الموت مهزوماً، ومات رجاله. لكن الحوثي واصل الركض وراء الجمهورية، وحصل على رئيس الجمهورية كمكافأة إضافية، ثم الجمهورية برمتها. ويريد ولد الشيخ إعادة تشغيل اللعبة من جديد، ومنح الحوثيين محسن. يقول محسن: إذا حصلوا عليّ مرة أخرى سيحصلون على هادي. هذه المعادلة ربما ليست قابلة للتكرار، لكن المؤكد هو أن الحوثيين غير معنيين بمصير محسن بل بمصير مملكتهم.
في هذا الأثناء يمكننا القول إن "محسن" إن كان عسكرياً غير قادر على تغيير شكل المعركة فهو عسكري جمهوري في الأخير، أو أحد عساكر الجمهورية العاجزين، مثل القائد الأعلى للقوات المسلحة، وكالمقدشي، موزع القات الأشهر داخل الجيش.
الأزمة التي حلت بالوطن، حالياً، ليست من صنيع محسن. ساهم محسن في صناعة الفوضى كواحد من رجال صالح الأقوياء، ومن داخل رؤية صالح، لا كمحسن المُفرد، أو ليس كلياً كمحسن المُفرد. إننا إزاء وضع تاريخي غاية في التركيب، حتى وفاة الحوثي نفسه لن تشكل تحولاً جوهرياً فيه.
الحوثي غير معني بالمصير النهائي لمحسن، سواء بقي أو غاب. لذلك لا يبدو هذا العرض المجاني الذي يقدمه ولد الشيخ للحوثي مغرياً. فعندما اقتحم صنعاء قال إنه يبحث عن محسن، ووجدنا أنه يريد الجمهورية كلها. حالياً يعيد ولد الشيخ اللعبة إلى الدرجة صفر. الحوثي سلسلة من العصابات الدينية التي تعمل في خدمة ربها المُتخيل، وهي بهذه الطبيعة لا تقبل سوى بالنصر الكامل أو الهزيمة الشاملة. وأكثر ما يجعل من الحوثي مسألة شديدة الصعوبة هو اختلاط اللاهوت بالناسوت، الديني والدنيوي، الزمني والسماوي، الرب والشيطان معاً.
الضغط على زر "علي محسن" ليس اختراقاً تفاوضياً، ولا حلاً سحرياً لحرب هجينة Hybridkrieg يقاتل فيها الداخل ضد الداخل والخارج ضد الداخل، والخارج ضد الخارج .. والرب إلى جانب كل الصفوف..