الناس بين الوعي الحقيقي والوعي المزيف
ينطلق سلوك الناس من مجموع المفاهيم التي يحملونها، ومن مشكاة الأفكار التي يطبقونها، وهذه الأفكار عادة في الوضع الطبيعي تكون ناتجة عن إدراك حقيقي لها ولمراميها وأبعادها في كل المجالات التي قد تدور في فلكها بدءا من الذات وانتهاء بالأنظمة المجتمعية؛ سياسية واجتماعية وثقافية، وبالتالي فهي تحكم تصورات الناس حول الموضوعات المختلفة، فيتباينون فيما بينهم في الرؤية والهدف والسلوك، لأنهم في الأصل مختلفون في الأفكار والمفاهيم.
وتساهم الأوضاع الثقافية بشكل عام في صناعة الوعي المجتمعي، على الرغم من أن صياغة أفكار المجتمع لا تكون في ابتدائها إلا من لدن شخص صاحب رؤية ومنطق وفلسفة ما، فكل المجتمعات قديمها وحديثها كان الشخص الفرد هو المؤثر فيها، على ألا يُفهم هذا بشكل مبسط وساذج، إذ تكشف الحركة التاريخية للمجتمعات الإنسانية أنها دوما كانت تترقب قائدا فردا يقودها بأفكاره وفلسفته ووجهة نظره، مع عدم استفراده أحيانا فيما بعد بالحكم والسيطرة والحبروت، أو تحكمه المطلق في أحايين كثيرة بالعباد والبلاد، فيقول لهم ما قال فرعون "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد".
ومع دوران عجلة الحياة تتسع الدائرة وتصبح تلك الأفكارُ فرديةُ المنشأ جماعيةَ التوجه، وشيئا فشيئا يزداد المتوافقون على صحتها، ومع تلاقح الأفكار وتلاقيها وتشعبها، يغيب الفرد وتحضر الجماعة صانعة وعيها الكلي الذي يميزها، ويبدو ما عرف بالوعي الجماعي، والموافقات الفكرية والفلسفية شيئا متأصلا في حركتها السياسية والثقافية والاجتماعية، ويصعب على تلك الجماعة التغيير، ولا تستسيغه بأي حال من الأحوال، بل وتقف ضده بكل ما أوتيت من قوة وجبروت، ليكون لسان حالها "إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون".
ولذا فإن المصلحين الاجتماعيين هم أكثر من عانوا في سبيل صياغة أفكار المجتمع صياغة جديدة بوعي جديد، فهذا أرسطو قد مات شهيد أفكاره التي آمن بها، ودفع حياته ثمنا لجهود التغيير، والشيء نفسه يقال عن فلاسفة عصر التنوير في أوروبا، وقبل ذلك ما واجهه الأنبياء، عليهم السلام، من عنت من أقوامهم، فكل هؤلاء الأفراد واجهوا الصدّ والمنع والتشويش والتهويش؛ لأنهم أرادوا تغيير القناعات واستبدالها، فمنهم من قُتِل ومنهم من شُرِّد ومنهم من مات لم يحقق أي مصلحة تذكر، ولكنه ترك بذوره في الأرض، فإذا ما تهيأ لها المناخ المناسب نمت وترعرعت وآتت أكلها حلوا سائغا لا شائبة فيه، ولكن بعد مسيرة من نضال اقترب فيها أصحابها من اليأس ووصلوا إلى حافة القنوط "حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا"، تلكم هي مسيرة التغيير لن تكون سهلة ولن تكون بسيطة، ولن تكون بلا ثمن، فلا بد لها من تبعات يتحملوها أصحابها راضين بكل ما يأتيهم من قِبَلِها.
لقد مرت الأمم والشعوب بمراحل رقود نتيجة أوضاع لها تفسيراتها السياقية التاريخية، ولكنها بغير شك ليست شعوبا ذليلة أو مستكينة أو ضعيفة، بل الشروط الموضوعية للتغيير لم تَحِنْ، ولم تنضج ثمار الوعي الحقيقي بعد، أو لأنها كانت تعيش وعيا مزيفا، جندت الأجهزة المتسلطة لصناعته الكثيرَ من الأدوات.
ويعدُّ الدين وتوظيفه بشكل غير سليم من أشد تلك الأدوات خطرا، إذ تمارس تلك الأجهزة النصوص المقدسة إما بتأويلها بما يتوافق مع مصالحها، أو باقتطاع النصوص من سياقاتها التاريخية والفكرية، لتكون شاهدا على ما تريده، وعندها من سيخرج على مقررات تلك الأجهزة سيكون منحلا وزنديقا، فيفتي أحبار السلطان بوجوب العقاب وأليم العذاب لكلّ من خالف أمر السلطة الحاكمة، ولذا فإن الدين والحالة هذه سيكون فعلا أفيون الشعوب، وهذا ما حدث في أوروبا قُبَيْلَ عصر التنوير، وما حدث عند العرب في بعض فترات من الحكم عندما جمّدت الأمة الاجتهاد وركنت إلى شروحات قُدِّمت في سياقات ليست هي سياقاتها الطبيعية، وغابت فكرة النص الثابت والتأويل المتغير حسب الظروف والأحوال، وخاصة في النصوص التي اقتضت طبيعة صياغتها الانفتاح على آفاق من التأويل المناسب لعصور ومساقات مختلفة ومتعددة، حتى وصلت الحالة الاجتماعية في تلك المجتمعات إلى الانغلاق ومورس عليها نوع من الوعي المزيّف، وصارت مقتنعة بأنها لا ترى من أمرها إلا رشدا.
وإذا ما تضافر مع العامل السابق عوامل أخرى سياسية واقتصادية، تمارس على الناس ألوانا من القهر المتقن المدروس التبعات النفسية والاجتماعية تساهم هي الأخرى في صياغة الوعي المزيف فإن الطامة ستكون كبرى، ووَهْمُ التخلص من الحالة التي هي عليها ستكون شبه مستحيلة، وستصل المجتمعات إلى ما يشبه الموت والرضا والقناعة بالواقع، لأن لسان الحال عندها أن التغيير مستحيل، أو ليس في الإمكان أبدع مما كان! ويسود أبناء تلك المجتمعات صمت مطبق لا يبدون أي تعليق سلبا أو إيجابا حول أي مسألة من مسائل المجتمع وقضاياه، عندها قل إن تلك الأمة في حالة موت سريري، ولن ينتشلها من وهدة انحدارها سوى الهزات العنيفة، لتغيير القناعات واستبدال قناعات جديدة بأفكارها القديمة البالية.
ومع تطبيق هذا المنطق الذي أدعي على الأمة في الوقت الحاضر فسيكون صائبا لدرجة كبيرة، فالأمة التي كانت تعيش حالة موت سريري مقتنعة بواقعها الزاهر! وأنها لم تجد لقضاياها نصيرا سوى تلك الأجهزة التي حكمتها ردحا من الزمن حتى استقر وعيها المزيف على أن حكامها من نعم الله عليها، ويجب أن تشكر الله العلي العظيم على عطاياه لها، لأنه خصها بتلك النخب المميزة، فرأت في فترة من فتراتها وهي في سبات، أن ملوكها ورؤساءها وأمراءها هم رافعوها إلى سلم العزة والكرامة، فأسطرتهم وأوشكت أن تؤله بعضهم، فحكموها وأحكموا حولها حبال الجهل والعمى، فصارت تسبّح بحمد النظام بكرة وأصيلا، مقالات وقصائد وخطبا رنانة ودعوات عقب صلاة الجمعة وفي ليلة القدر وفي عرفات الله، حيث يوم الحج الأكبر، كان هذا حقيقة نابعا من وعي أفراد تلك الشعوب، من وعي لم يغصبها أحد عليه، لكنه للأسف الشديد كان وعيا مزيفا بامتياز، وقد كنت ألاحظ في سنوات طفولتي أن الناس في قريتنا عندما كانت تعقد قمة عربية يتلهفون لمتابعتها ثانيةً بثانية، وإذا ما انفضّ السامر سردوا المديح مطولا لتلك النخب التي هزت الناس بقولها، لكنها لم تصنع واقعا يهز ذنب كلب ينبح على أحد أفرادها في غربة عرضها السموات والأرض أعدت للمشردين من أبنائها.
لقد استمرت هذه الحالة طويلا، وعاشت الأمة ردحا تعاني من الموت والدمار في ظل أفكار صنعها وعي تلك النخب الحاكمة بأوساطها السياسية والثقافية، حتى إذا ما تعرضت الأمة لهزات عنيفة أخذت تعيد حساباتها وبشكل جدي، فأخذت تتململ وتصحو تدريجيا، فرب ضارة نافعة كما يقول المثل العربي القديم، وسأذكر القارئ العزيز ببعض تلك الهزات التي ساهمت في رفع حالة الوهن، لتنتقل الأمة من حال إلى حال:
أولا: رحيل الرئيس العراقي صدام حسين وإعدامه وسكوت الحكام العرب وتواطئهم عليه وعلى العراق عامة، عندما جيش الاستعمار الحديث جنوده للسيطرة والاحتلال، فكان ذلك أول بذرة ساهمت في خلق وعي على أن هذه الأنظمة هي عامل تخلف وشرذمة، وما تبع ذلك من احتلال للعراق وتدمير بنيته الثقافية والسياسية والعسكرية.
ثانيا: تعثر المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية وصلف إسرائيل غير المحدود، ساهم هو الآخر بشعور الشعوب العربية بالهوان، وقد ساعد اليهودَ على ذلك مؤتمراتُ القمة العربية، وبعض الأنظمة وخصوصا نظام مبارك، مما زاد من إحباط الشعوب ويأسها، فساعد ذلك على إيجاد أجواء من نمو تلك البذور في مناخ جديد مشجع، ومحاولة التخلص من تلك الأنظمة التي تحمي إسرائيل فعلا، وأهمها مصر وسوريا والأردن.
ومن جهة ثالثة رفعت الحروب الإسرائيلية على غزة وعلى جنوب لبنان في السنوات الأخيرة، ووقوف بعض الأنظمة مع العدو الصهيوني جهارا نهارا، رفعت من وتيرة ترعرع وعي جديد لتلك الشعوب، فشعرت بالنقمة غير المحدودة ضد تلك الأنظمة، فكيف قلبت تلك الأنظمة الحق باطلا والضحية جلادا؟ لاسيما وأن الموقف الدولي وقف إلى جانب إسرائيل وهيأت كل الظروف لحمايتها وإذلال الدول العربية، فدفع ذلك الشعوب لتنظر إلى نفسها على أن عليها واجبا يجب أن تقوم فيه.
ولا يغيب عن الذهن كذلك ما حققته بعض حركات المقاومة من مكاسب عسكرية ضد أحلاف الغرب وأمريكا، وهي لا تملك من العتاد إلا أقله جعل الشعوب تفكر بأن باستطاعتها عمل شيء معين بشكل ما من التضحية، فالدول الكبرى بترساناتها المخيفة لم تخضع بضعة مئات من المجاهدين في أماكن صراع محتدمة هنا وهناك، ولم يكن بمقدورها أن تحسم المعركة لصالحها، فما بالكم لو هبت الشعوب بأجمعها، فإن طوفانها سيقلب الأوضاع ويغير وجه المنطقة ويربك خطط الآخرين، وهذا ما حدث.
وأخيرا وليس آخرا ما قام به الفضاء المفتوح الإلكتروني والتلفزيوني من دور فعال وتوفر حرية رأي، وإن كانت بحدود معينة ساهم برفع الوعي الشعبي بضرورة التغيير، وساهم هو الآخر برفع درجة حرارة ذلك الجسد الذي قارب على الموت لتدب الحياة فيه من جديد في ثورات كان يحكمها في الغالب وعي حقيقي، ستجني الأمة ثماره عاجلا أم آجلا، وإن عملية التدجين والتضليل انتهى زمانها، وانقطعت إلى غير رجعة، فكل ذلك ساهم في خلق الثورات وإصرار الناس على التضحية حتى بالروح من أجل مكسب أغلى وأثمن ألا وهو الحرية والانعتاق من أنظمة مستبدة ومتواطئة.