القتل باسم الله
يقول "جان روستان" في كتابه (أفكار عالم أحياء- Pensées d’un biologiste ): "تقتل إنساناً، إذن أنت قاتل، تقتل ملايين النّاس، إذن أنت فاتح، تقتل الجميع إذن أنت الله".
هذه الجملة الخطيرة بمعناها والّتي يشترك فيها القاتل والفاتح والله في فعل واحد الّذي هو القتل، تصدر عن مفكّر وعالم ملحد، ولكّنها تدعو إلى الكثير من التّأمّل وتترك في نفوسنا عدداً كبيراً من الأسئلة الّتي علينا أن نخضعها لعقولنا، ونحاول الإجابة عليها. والفرق بين "روستان" كملحد والمؤمن هو أنّ المؤمن يعتبر من حيث يدري أو لا يدري بأنّ الله يمتلك أن يضع حدّاً لحياة الأشخاص، وله القدرة العظيمة في إنهاء حياتهم. ويبرّر ذلك بأنّ الله كلّيّ القدرة له الحقّ في ذلك كونه الله.
هذا القبول بفكرة أنّ الله ينهي حياة الإنسان متى يشاء وبالطّريقة الّتي يشاؤها لهو ينمّ عن سوء فهم لمقاصد الله وعن جهل إيمانيّ يرتكز على اقتبال كلام الله دون تحليلها والغوص في معانيها الخاصّة، واستسلام لنصوص حرفيّة قد تساهم إمّا في مساعدة الإنسان على تحمّل واقعه المرير، وإمّا في استغلاليّة الإنسان لأخيه الإنسان من خلال استخدام هذه النّصوص ليحقّق مصالحه الشّخصيّة، وإمّا في اعتبار أنّه مكلّف من الله بتطهير البشريّة من الفاسدين، فيشترك مع الله في إنهاء حياتهم.
هذا المتمسّك بالتّعاليم الإلهيّة والمدافع عنها في سبيل إحقاق الحقّ يستند إلى نصوص سلّمت إليه، حفظها حرفيّاً وفهمها بحسب مستوى الفكر الإنسانيّ البحت دون أن يعود إلى إطارها التّاريخيّ، والعلميّ، ودون أن يرتفع إلى مستوى الله. تلقّف هذه التّعاليم وكأنّه يتلقّفها من حاكم متغطرس، يأمر حاشيته بإبادة كلّ من يخالفه أو يزعجه. فأعلن ولاءه للحاكم واستند إلى معايير الحقّ من وجهة نظره، وصنّف النّاس بين ضالّ ومؤمن، وتجرّأ على قتل أخيه الإنسان.
على من يقع ذنب القتل في هذه الحالة، على الله أم على الإنسان؟ ومن له الحقّ في تصنيف النّاس مؤمنين كانوا أم ضالّين؟ وما هو الفرق بين القاتل بدافع السّرقة أو غير ذلك، والقاتل باسم الله؟ هل يحتاج الله فعلاً إلى زمرة تنتظر منه إشارة لإبادة مخالفيه؟ وهل هذه هي طريقة الله فعلاً في دعوة النّاس للإيمان به؟ إلى ما هنالك من أسئلة يمكن طرحها في سبيل الوصول إلى حقيقة هذا الأمر.
إن كان الإنسان يرتكز على نصوص دينيّة ليقتل أخاه بدافع الإيمان، فهذا يدلّ على إيمان أعمى وجاهل. وإن كان يصدّق في أعماق ذاته أنّ الله يملي على النّاس قتل بعضهم البعض، فهذا اعتراف بأنّ الله يحمل في ذاتيّته الشّرّ ولا يملك وسيلة أخرى للتّعامل مع الإنسان. حاشى لله! أمّا وإن كان هذا المدّعي إحقاق الحقّ في سبيل الله يعتبر أنّه منصّب قاضياً على البشر، فهو يتناسى أنّه ككلّ النّاس يخضع للنّقص والضعف البشريّ، ويهين العزّة الإلهيّة في التّجرّؤ على المسّ بصورتها ومثالها، الإنسان.
الارتكاز على النّصوص الدّينيّة:
قد نجد في النّصوص الكتابيّة، دعوة لقتل من هم مخالفون لإيمان جماعة معيّنة، وذلك يعود للصّراع القائم بين شتّى القبائل المتناحرة بدافع السّيطرة والتسلّط. وبالعودة إلى الأطر التّاريخيّة وللوعي الإنساني والإيمانيّ في ذلك الوقت، لا بدّ من أنْ ندرك أنّ الإنسان لم يكن ليتفاعل مع كلمة الله بنضج كامل. وتشهد بعض النّصوص الكتابيّة حروباً بين قبائل عديدة وتعيد سبب الانتصار أو الهزيمة إلى الله، باعتبار أنّه السّبب الأول، وباعتبار أنّه القاضي الأعلى الّذي يمنح الثّواب والعقاب. لا بدّ من أنّ الإنسان كان يقرّب فكر الله من فكره الإنساني، في ما هو مخالف للمنطق، إذ لا بدّ من أن تكون الّذات الإلهيّة أعلى وأرقى من الفكر الإنسانيّ، ولا بدّ من أنّها لا تفكّر مثله. لأنّه وإن ثبت أنّ طرق الله كطرق الإنسان، فهذا يعني أنّنا لسنا بحاجة لله لتخطّي ذواتنا ولفهم ما لا يمكننا إدراكه. وإن كانت الّذات الإلهيّة تشابه الفكر الإنسانيّ فكيف لم يدركها الإنسان رغم نموّه الفكريّ وتطوّره؟ وبما أنّ النصوص الدّينيّة تحمل في غالبها دعوة للمحبّة والسّلام، والتّآخي واحترام الآخر، فوجب علينا التّعمّق أكثر فيها وتأوينها وتأويلها، وتخطّي الحرف والولوج قدر المستطاع في الفكر الإلهي، لبلوغ مقاصده المخالفة لمقاصدنا، محترمين أنّ الله مختلف عنّا، قابلين بأنّ طرقه غير طرقنا. فمن يدعونا للمحبّة لا يمكنه أن يدعونا للقتل، ومن يدعونا للحرّيّة لا يمكن أن يكون عنصريّاً ومستعبِداً، ومن يدعونا إلى الحقّ، لا يمكن أن يدفعنا للضّلال بقتل أخينا الإنسان.
علينا أن نرفض قبول النّصّ الدّينيّ الّذي يدعو إلى القتل بحرفيّته، كما علينا أن نرفض استغلاله لمصالح سياسيّة، تمكّننا من التّسلّط على البشر واستعبادهم مدّعين إحقاق الحقّ. ورفضها لا يعني اقتطاع ما أردنا من النّصوص، وإنّما الغوص فيها على المستوى الفكريّ والرّوحي وتخطّي الحرف والارتقاء إلى مستوى الفكر الإلهيّ لاستيعاب كلمة الله الحيّة.
استغلال النّص الدّينيّ سياسيّاً:
كلمة الله هي كلمة للحياة، ودورها تحرير الإنسان فكريّاً وروحياً، وانتشاله من عبوديّة الشّرّ. والشّرّ هو كلّ ما يمكن أن يسيء إلى الذّات والآخر، ابتداء من الكلمة السّيّئة وصولاً إلى الفعل السّيّء. قد تقتل كلمة إنساناً ما، قبل أن يقتله السّلاح، ففعل القتل نتيجة وليس سبباً، ويبدأ فعله في الفكر والقلب عندما يكره الإنسان أخاه. وإن كان الله يدعو إلى القتل. فوكأنّنا نقول أنّ الله يكره فيقتل. وهذا يتنافى والذّات الإلهيّة، لأنّها لا تتصرّف بحسب المشاعر الإنسانيّة، حتّى وإن قلنا إنّ الله محبّة، فهذا التّعبير ليس سوى تمتمة بشريّة لمحاولة إدراك محبة الإله.
ولمّا كان الإنسان يستخدم النّص الدّينيّ في السّعي لإحلال الكلمة الإلهيّة، والعمل بشريعتها، من خلال القتل، فهذا يندرج ضمن إطار التّسلّط والسّيطرة على الآخر من خلال ترهيبه، وتهديده بإنهاء حياته. كما أنّه يندرج ضمن اللّعبة السّياسيّة في استخدام الدّين كوسيلة ضغط على فئات معيّنة للتّحكّم بها. فقد تسقط في شباك من هم فعلاً يخطّطون للسيطرة عليها، وهي تتقاتل في سبيل الحقّ الإلهيّ. ولطالما استخدم الإنسان دينه في شنّ الحروب على الآخر واستغلاله وإجباره على الخضوع له. والسّؤال هنا: كيف يمكن استغلال النّص الدّينيّ في اللّعبة السّياسيّة؟
إن استخدام الدّين في السّياسة يمنح الإنسان قوّة فائقة باعتبار أنّ من يسانده هو الله، فلا يمكن مجادلته أو محاورته. ولعلّ أخطر الحروب هي تلك الّتي يحمل ظاهرها طابع الاقتتال الدّينيّ، وذلك لأنّها مدعّمة بنصّ إلهيّ. ونقول ظاهرها لأنّ مضمونها بعيد كلّ البعد عن الدّين. فالمحاربون في سبيل الله، ليسوا سوى أشخاص تحرّكهم عقول لا يعني لها الله شيئاً، وتساندهم وفقاً لمصالحها الشّخصيّة. والأسوء أنّ هذه العقول تنجح في ما تصبو إليه لأنّها دارسة لفكر هؤلاء، وتعلم تفاصيل حركتهم العقليّة والمعرفيّة، فلماذا لا تستخدمهم من حيث يدرون أو لا يدرون في سبيل أن تحكم سيطرتها على الشّعوب الّتي ما زالت تعتبر أنّ الله يحمل سيفاً ليقطع رأس كلّ من خالفه.
ولسنا نستوحي هذه الأمور من الخيال، لأنّها واقع مرير، ولطالما شهدنا حروباً دينيّة، قمع فيها الإنسان بشراسة أخيه الإنسان، وإلى اليوم نشهد وبقوّة، إجراماً مقيتاً من خلال قتل الإنسان لأنّه مخالف لإيماننا ونعتبر أنّنا نخدم الله بذلك، وأنّ مصيرنا ملكوت السّماوات في كلّ مرّة نتخلّص من ضالٍّ عن الإيمان الحقّ في هذه الأرض!! وما أسماه التّاريخ فتوحات وحملات للدّفاع عن شعارات دينيّة تحت رداء الدّين ليست سوى احتلال وسيطرة على الشّعوب.
واستغلال النّص الدّيني لا يكون فقط على مستوى الاقتتال بين الأفراد، بل يدخل في صميم الفكر الإنساني فيسجن الإنسان في قمقم التّعصّب القاتل، والتّشبّث لدرجة العمى الفكري، بمعنى أنّه يتمسّك بالفكرة ويخاف أن يبلورها ويطوّرها، فتفسد بسبب حجب هواء المعرفة والمنطق عنها. ويأتي استغلال النّصّ الدّيني في سياق استغلال الفكر الإنساني لتوجيهه إلى ضرب الفكر بشكل عام من خلال الدّين. ويبرز هنا عامل الخوف فهو عامل مهمّ جدّاً؛ إذ إنّه خوف من مخالفة التّعاليم الإلهيّة، فإمّا الولاء لله في التّمسّك بالنّص، وإمّا المواجهة من خلال تأويل النّصّ. وتقع الحرب الفكريّة هنا بين من يصبون إلى حرّيّة الفكر للبلوغ إلى المطلق، وبين من يدفنون أنفسهم في الحرف معتبرين أنّهم متمسّكون بالله.
هذه النّقطة أساسيّة جدّاً في لعبة السّياسة، إذ إنّها تبعد عدداً لا بأس به من النّاس عن مواجهة خطط سياسيّة عالميّة، يراد من خلالها التّحكّم بالشّعوب. فمن السّهل جدّاً السّيطرة على مجموعة لا تسعى لتطوير فكرها، بل تغرق في جهل عقيم. ونرى الكثير من البدع، إمّا تتحدّث عن حكومة سماويّة وترفض من خلالها أيّ حكومة أرضيّة، وإمّا تتحدّث عن إحلال شريعة الله على الأرض، فتتلهّى في حروب صغيرة لفرض معتقدها في حين أنّها تنفّذ من حيث تدري أو لا تدري مخطّطات كبيرة تسبّب في موتها هي أوّلاً.
الله ليس قاتلاً:
كيف يمكن للإنسان أن يقبل في فكره وقلبه أنّه يمكن لله أن يصدر أحكاماً بالقتل على من خلقهم؟ وكيف لإيمانه بالله أن يقبل هذا التّناقض العجيب في الذّات الإلهيّة، في حين أنّه يعترف أنّها أسمى من كلّ شيء؟
إذا كان الله كلّيّ القدرة فهذا لا يعني أنّ قدرته الكلّيّة هي القتل، وإلّا انتفت عنه الألوهيّة، لأنّ القتل ليس سوى فعل إنهاء لحياة في حالتين: الأولى عجز عن بلوغ الآخر بالوسائل الحضاريّة، والثّانية استئثار بالسّلطة، واستغلالها للسّيطرة على الضّعفاء.
إن كان الله يعجز عن الوصول إلينا بطرق إلهيّة، بمعنى مختلفة كلّ الإختلاف عن توجّهات الإنسان، أو إن كان يستغلّ قدرته الكلّيّة للسيطرة على الإنسان والتّحكّم به، عندها يمكننا القول إنّ الله يشبه الإنسان، وهنا تنتفي قدرته الكلّيّة، لأنّ التّاريخ يشهد لشخصيات أبادت شعوباً، وهي تستغلّ قدرتها.
ولمّا كان الله لا يشبه الإنسان، بدليل أنّ الإنسان لم يصل بعد إلى إدراك الماهيّة الإلهيّة بشكل تام، إذن فكر الله يختلف عن فكر الإنسان، وطرق الله غير طرق الإنسان، وأساليب الله غير أساليب الإنسان، ولا يحتاج إلى متحزّبين له ليقاتلوا من يعتقدونهم ضالّين أو فاسدين. وإن كان بحاجة إلى أيادي تمتزج بالدّم لتدافع عنه أو لترهب مخالفيه، فما هي دوافع الإيمان به؟
ولمّا كان الله يمنع في تعاليمه القتل ويحظّر المسّ بالنّفس الإنسانيّة، فهو لا يمكن أن يناقض ذاته في تحليلها لأشخاص معيّنين. إن الله إله أحياء، وحضوره هو الحياة فهل يجوز بعد الكلام عن قتل باسم الله؟ وهل يجوز القبول بنصوص تحثّ الإنسان على القتل؟
إن الله الّذي خلق الإنسان على صورته كمثاله، لا يمكن أن يقبل بأن يرمي صورته، فاحذر أيّها الإنسان وأنت تمدّ يدك لتقتل أخاك الإنسان، أنت تقتل صورة الله، ومن له أذنان سامعتان، فليسمع!
عدن اليوم/ خاص