سيكولوجية الغربة في ديوان الشاعرة الإماراتية سميرة عبيد " أساور البنفسج "
في كتابهِ أمة من المهاجرين يذكر الرئيس الأمريكي الأسبق جون كنيدي أن للهجرة أنماط، فتكون لأسباب اقتصادية وتكون هروباً من اضطهاد ديني، وتكون لجوءًا من استبداد سياسي.
وفي كل تلك الأنماط تسمى الهجرة غربة، ولهذه الأخيرة سيكولوجيتها وطبيعتها الخاصة، فهناك الغربة المكانية وتعني الانتقال والعيش في وطن آخر، وأسبابها قد ذكرت في الأنماط التي عددها كنيدي في كتابهِ والمذكورة آنفاً .
في ديوان أساور البنفسج للشاعرة سميرة عبيد نجد أن هاجس الغربة يسكن الشاعرة ولكن أشكال الشوق والحنين في القصائد تختلف من موضع إلى موضع فحيناً تعبر الشاعرة عن غربتها بالحنين والشوق إلى الأم ، تقول في قصيدة " أماه " :
(( أُمّاه ..
يا نبعا تكومت عليه / كل الطيور، / يا رائحة ياسمينة / استحمت منها بناتك الحيارى، / نثرت بين الروح والجسد / ترنيمة عشق صابرة / ما زالت تؤرخني كل يوم / على خارطة الغربة، / وطن منفي أنا / أعانق ذل الفراق / كي أصبح بوهج لقياك )) أساور البنفسج / ص 11
ونلاحظ أن الغربة المكانية والنفسية تسيطر على روح الشاعرة وتتحكم في سياق المقاطع السابقة .. ونلاحظ أن الأم ليست تلك العلاقة المادية التي تربط بين الشاعرة وبين والدتها ولكنه رمز يتسع ليصبح دلالة الشوق إلى أمها الكبرى " الأرض " .. ويعبر الفيلسوف اليوناني جالينوس عن ذلك بقوله : " يتروح العليل بنسيم وطنهِ، كما تتروح الأرض الجدبة بعليل المطر "، وهاهو برومثيوس يضرب أروع الأمثلة عن ذلك حين كان يتلقى الضربات في سماء الأولب فيهبط إلى أرض وطنه يتزود منها نسيماً وماءً وشعاعاً، ثم يعود ليتغلب على خصومهِ الآلهة المناوئين .. ويذهب الجاحظ إلى أبعد من هذا حول فكرة النسيمية الوطنية فيقول : " كان النفر في زمن البرامكة إذا سافر أحدهم احتفن معه حفنةً من تراب وطنهِ يضعها في جرابٍ لهُ ليتداوى بها ..!!"
رغم ذلك فالغربة المكانية هي غربة اختيارية، في الأغلب، إلا إن تجاوزت حدود الضغوط الاقتصادية من أنماط الهجرة.. وقد عبرت الشاعرة عن ذلك بقولها في القصيدة السابقة : " وطن منفي أنا / أعانق ذل الفراق " .
في موضع آخر من الديوان تفرد الشاعرة قصيدة تعبر فيها عن وحشة الغربة وماتخلفه في الذات عنونتها بـ " أنفاس الغربة "، تقول :
(( يرقص قلبي على ألحانه / يتمدد كسحابة بيضاء في كون الاشتياق / يتبرعم كزهرة تتفتح فتنشر رحيقها هوى / أترنح كأرجوحة / ما بين فكي الطفولة والغربة
هنا مطر يروي أنفاس الغربة / وهناك كف ظامئ لمواعيد الصحو المؤجلة / هنا سماء تتنفس بأشرعة مثقوبة / وهناك من يعزف على الكمان بأعجوبة / من أجل ذاك الشوق / ذاك اللحن / ذاك الشجن / ذاك الوطن / سأبقى ،،،،،،،، )) أساور البنفسج 126- 127 .
ثمة نمط آخر من الغربة يسمى الغربة النفسية، وهي غربة صعبة إذ يشعر صاحبها وهو بين قومهِ وأهلهِ بغربتهِ عنهم، فتبدو عليه أعراض الاكتئاب، ويدخل في سياق هذه الغربة ما يسمى في النفسانيات بالتعويض compensation أي مثلما نقول بالبدائل تستمر الحياة، ومن الأمثلة على ذلك الشاعر الشنفرى قديماً والذي يقول معبراً عن هذا :
"ولي دونكم أهلون سيدٌ عملسٌ / وأرقط زهلولٌ وعرفاء جيألُ "
فاستعاض بالحيوانات عن قومهِ وأهلهِ الذين شعر بغربتهِ النفسية بينهم، ومثله الأحمر السعدي، أحد قطاع الطرق في العصر الأموي وكان لصاً فاتكاً، يقول معبراً عن غربتهِ تلك :
" عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى / وصوّت إنسانٌ فكدتُ أطيرُ " والنماذج في التاريخ على هذه الغربة كثيرة خصوصاً من شريحة الأدباء والشعراء والفنانين ولكن لا يتسع المقام لذكرها، لكن هذه الغربة ليست اختيارية ولكنها جبرية، تفرضها وتجبر عليها ضغوط كثيرة كعادات وتقاليد وتباينات ثقافية وشعورية لا يدركها كثير من الناس ..
ونجد هذا التعويض ذاته في التفاصيل التي تقولها الشاعرة في قصيدة أنفاس الغربة ولكن بما يناسب ثقافتها وبما يناسب الأشكال الثقافية التي تحيط بها وتفقهها فتقول : " وهناك من يعزف على الكمان بأعجوبة / من أجل ذاك الشوق / ذاك اللحن / ذاك الشجن / ذاك الوطن / سأبقى "
أما وعن النمط الثالث من أنماط الغربة وأكثرها مدعاةً للأسى فهي الغربة التي تتكون من النمطين السابقين النفسية والمكانية " المكانفسية "، وهي ما بين الجبرية من الناحية النفسية والاختيارية من الناحية المكانية، ومن أمثلتها ومن شعراء المهجر نذكر جبران خليل جبران، الذي اضطرته هجرته وغربته المكانفسية إلى صنع عوالم خيالية ليس لها وجود إلا في ذهنهِ والتي نسج عنها أجمل الكلام والقصص والحكايا التي صارت إرثاً فكرياً حضارياً تتناقله الأجيال ..
تقول سميرة عبيد في قصيدتها "أنفاس الغربة" :
" يرقص قلبي على ألحانه / يتمدد كسحابة بيضاء في كون الاشتياق / يتبرعم كزهرة تتفتح فتنشر رحيقها هوى / أترنح كأرجوحة / ما بين فكي الطفولة والغربة"
هنا نجد الوهم الذي يختاره الشاعر ويعايشه ويستعيض به ليأتنس ويكافح وحشة الغربة، وما تلك الألحان التي يرقص على أنغامها قلب الشاعرة إلا كما " سلمى " في أدبيات جبران خليل جبران التي ليس لها حقيقة إلا في أحلامه ومؤلفاته ..
يقول بوذا " نحن مانفكر فيه ، وكل مافينا ينبع من أفكارنا ، وبأفكارنا نصنع عالمنا " ويقول أيضاً : " أن الإنسان لايصل إلى الحقيقة الخالصة إلا عندما يدرك أن كل ما في الحياة هو مجرد وهم .." والشاعرة تعرف ذلك بوعي أو بدون وعي لافرق فهذا الوهم ذاته هو مايجعلها تستعيض بالموسيقى والشخصيات الإفتراضية لتكافح وتجاهد غربتها حيناً وتستحثها على الكتابة والتعبير شعراً ونثراً حيناً آخر .
كل تلك أنماط الغربة تأتي في سياق موضوعي، بيد أن هناك علاقة سيكولوجية بين الموضوعية والذاتية تبعاً لما تحتمه الظروف الثقافية والحضارية والإنسانية، لكن يبقى سؤال هام عالق ترتسم حوله هالة استفهامات كثيرة وهو سؤال الهوية والذي له علاقة وطيدة بالغربة، وهو سؤال من أكثر ما يدور على الألسن ومتداول ، فهل حقاً للغربة دور في محو الهوية واستئصالها من أعماق الفرد، أم أن الغربة تعيد صياغة عوالم المرء النفسية لتصنع منه إنساناً جديداً له علاقة بالعالم الذي يعيش فيه، لكنه لا يقبل التنازل عن هويته الأصلية والتي بدونها – على الأقل في نظرهِ وهو الأهم لا يساوي شيئاً ، والشاعرة سميرة عبيد في أساور البنفسج تخالف تلك الأنماط التي مسخت هويتها الغربة بما احتواه الديوان من تفاصيل الأشواق وحكاية الحنين في ذات الشاعرة الذي ليس له قرار ..