في وداع ( المرشدي) فنان ( الأرض والفكرة )
يــــا راحـلــــون .. وخـلفهــم قـلبـــي
الإهــــــداء
إليك .. حاضراًً حاضناًً .. كبيراًً كثيراًً
إليك .. أباًً .. مربياًً .. إنساناًً
إليك .. ثورياًً وثائراًً .. وطنياًً مناضلاًً
إليك .. يعطيك العافية .. ألف ألف عافية
ما أروعك .. ما أروعك .. ما أروعك
الرجل الأبيض الجميل / أبي و ( بلدياتي )
الشاعر الغنائي الكبير / محمد الفتيح
هل تقبل إعتذاري .. هل تقبل إهدائي وقبلاتي ... يـــا أبي
فجعت – مثلي مثل الملايين من المفجوعين – برحيل هذا الكبير .. الكثير ( شيخ الفنانين ) الأستاذ / محمد مرشد ناجي ( المرشدي ) .. تغمده الله بواسع رحماته وفسيح جناته .. آمين
الموت نهاية كل حيّ .. و (( كل نفس ٍ ذائقة الموت )) صدق الله العظيم.. وهل فينا أو منا أو بيننا من يشكُّ أو يتشكك ..
لكنه الفراق المرّ الذي يفجأ الأحياء ويفجعهم .. برحيل من يحبون
على المستوى الشخصي توقعتُ الرحيل القريب لهذه القامة والهامة بعد أن عاركه المرض طويلاً ، وغزاه في قلبه الكبير .. وأثخنه حتى لحظة رحيله بعد عمر جاوز الأربعة والثمانون عاماً ..
لسان حاله .. لسان حال ذلكم الشاعر الثمانيني
سئمتُ تكاليف الحياة ومن يعش
ثمانون حولاً لا أباًً لك يسأم
وتساءلت أنا .. كم من الوقت نحتاج لنجد بعض العوض في قامة بمثل هذه القامة .. أو تقاربها .. حتى !!
ولو تشاءون الحق – في سركم بالطبع – فقلب كقلب ( أبو علي ) أبيض مثل الثلج .. نقي كالماء الرقراق .. يستحيل أن يبقى نابضاًَ وهو ينظر بعيني قلبه الثمانيني المتعب ما تعيشه ( عدن ) من نعث وجعث ... من تقطيع وتقطع .. من غزو واستباحة لمفردات الجهالة والبداوة على حساب رصيدها الباذخ من القيم الرائقة الراقية والأخلاق الفاضلة قيم المحبة والتسامح والسلام ، هذه القيم التي يراد لها – ومن أسف وأسف من قلة قليلة من بنيها – أن تتآكل وتمحي لتصبح عدن ( محطة ترانزيت ) لتوريد متاعب العالم وأزمات الإقليم وتصديرها من ثم على عدن وما جاور عدن .. أرضاًَ وإنساناًً و داراًً ودياراًً .. " زنقة زنقة ، ودار دار " .. حتى صار النحس والدبور يلاحق هذه المدينة .. المدنية الحضارية الإنسانية .. ويضربها في الصميم ، في دوامة دائمة من الصداع والصراع الذي غالباً ما ينتهي بحفلة موت .. باذخة
و .. ( بص شوف ) .. رحل المستعمر البريطاني البغيض وما إن قال الناس : ( بسم الله عليك يا الله ) حتى كان الإخوة الأعداء يديرون فصلاً دموياً غاية في البشاعة ..
كان فصلا ًإستثنائياًً بامتياز .. تصوروا القتل بالهوية - ورب الكعبة القتل بالهوية - حاجة ما حصلتش .. والصراع .. يا حبة عيني – قبلي مؤدلج من طراز جديد ! !
جاءت " الوحدة " الخمرة التي أسكرت عقول وقلوب اليمنيين.. فكانت عدن الوحدوية حتى النخاع السباقة للتوقيع عليها وما إن قال الناس يا هادي " خلاص جاء الخلاص " حتى جاءهم ( الشيطان الرجيم ) شحماًً ولحماًً بملابس ( الزعيم ) .. فسرق حلم اليمنيين .. ثم أخيراًً وليس آخرا ً صنع اليمانيون من أقصاها إلى أقصاها وفي المقدمة منهم عدن وأبناء عدن ملحمة ثورية غير مسبوقة قلعت إلى الأبد حكماً رجعياً كهنوتياً وألقته في مزبلة التاريخ .. لكن وحتى قبل أن يسترجع الناس أنفاسهم بعد هذه ( الملحمة ) التي صنعها فتيةً آمنوا بربهم .. ثم بحقهم في الحياة الكريمة عقب هذه الثورة النقية من غير سوء نقاء هذا الشباب الطاهر النبيل .. وقبل أن يقول الناس : يا فتاح يا عليم .. يا رزاق يا كريم " نكع " مقاولوا الموت وصناع الفتن والأزمات إلى الوسط .. في خاصرة اليمن في حبة القلب وجنة الدنيا ( عدن ) .. وهاتلك يا شعتلة ويا تخريب .. المفارقة أن الجميع .. إلتقى على عدن .. وفي عدن الأمريكاني والروسي ، السني والشيعي .. السلفي والصوفي .. أصحاب مطلع وأصحاب منزل .. البدوي والمدني .. الهاي هاي .. والآي آاااي ..
وكلٌ يدعي وصلاً بـ (عدن )
و( عدن ) لا تقرُّ لهم بذاكـا
أسألكم أنا بربكم .. قلب ( المرشدي ) المرهف الحساس هل يتحمل أن ينظر هكذا عدن وهي مثل الكرة تركل بالأقدام .. وهات وخذ .. قلب المرشدي هل يطاوعه على النبض .. يا شيخ ( قلوب الأطفال ) أطفال عدن صارت تشيخ قبل الأوان .. فكيف بشيخ ثمانيني قلبه ( كقلب طفل )
معذرةً شيخ الفنانين .. معذرة أبانا الكبير على هذا ( الفاصل الثقيل )
لي علاقة حب .. حب من طرف واحد بهذه القامة والقيمة .. مذ تفتح وعيي على الحياة ، أو تفتحت الحياة على وعيي .. لا أدريه زمناً ، لكنني أدريه شعوراً وإئتلافاًً .. شوقاً وإلتقاءاًً في ذلكم الزمن الجميل غرة الثمانينات من قرننا الراحل ، في غمرة المراهقة - مراهقتي أنا أقصد - كنا نعيش (فورة تدين ) عارمة ، وكنت – بحمد الله – إبناًً باراًً لمسجد العبادي ( مسجد زكو ) في مسقط رأسي (الشيخ عثمان ) .. نشأت بين قبلته وصوحه وتنقلت بين أركانه وزواياه بحكم قربه من منزلنا بالغ التواضع ثم لما كبرت تنقلت بينه وبين المسجد الآخر ( مسجد النور ) لقربه – أيضاً – من دكانة أخي الصغيرة حيث كنت أُمارس تجارة طفولية مبكرة .. شغل مراهقة يا شيخ .. قلّك تجارة قلّك
هنا أتذكر – كأنه الساعة – جاءني ( المرشدي ) حيث كنت أٌقف على دكانة أخي في آخر ( البغدة ) الخلفية لمسجد النور ..يشكو من تسرب الماء من المسجد إلى ( الإستريو ) الذي كان يملكه المرشدي على بعد أمتار من دكانتنا .. حيث جاء مغاضباًً وصرخ : (( إيش .. يا إخوان يا مسلمين باتخلو لنا حالنا ))
كنت حينها أنظر لقب ( الفنان ) وأقابله بلقب ( الشيطان الرجيم )
فنان .. قول حاجة ثانية يا شيخ .. فنان ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
وكان هذا مبلغي وبلغتي من جرعة ( تدين ) مكثفة .. شطح ونطح وبطح .. ومما لا تعلمون ومع ذلك – وبيني وبينكم وما حدش يأخذ خبر – كنت أرفضه إسماًً واستمعه لحناً طروباًً أرفضه ( فناناًً ) لكن صوته الحنون يرفض رفضي ويفرض على أحاسيسي ومشاعري حضوراً متوهجاً ..
وهل يكون قلب ثم هو لا يفتح أبوابه على مصاريعها لصوت ملائكي غريد يتسلل عفواًً أو قصداًً .. سراًً أو جهراًً إلى مجامع ذلكم القلب .. إن كان قلباًً أقول قلباًً .. هاااه وليس صخراًً
ولكم تصديق قولي أو تكذيبه لقد كنتُ بأثناء ( فورة التدين ) أحتجز أوراق إعتماد مرور المرشدي إلى سمعي .. فأجده في قلبي ملكاً ومالكاً .. ومع سبق الإصرار والترصد
من خلال صوته حلّقت بأحلامي في سماء قريتنا الوادعة القريبة من موطني عدن .. على مرمى حبِ منها .. رسمت قريتي .. التي لم أعرف من خلال أغاني المرشدي ثم لما غادرنا ( عدن ) و ( أغتربنا ) في تعز حيث موطننا الأم .. موطن الآباء والأجداد العام 1983م في موكب جنائزي حزين كان المرشدي هو ( البريد ) الذي نقل لي عدن والشيخ عثمان بـ ( حوافيها ) بـ ( أزقتها ) بـ ( أناسها ) مسجد زكو .. حافة القريشة أو شارع الحرمين .. المصعبين .. نادي الوحدة .. مسجد النور الشارع العام .. مطعم الشيباني .. علي بانافع .. جعفر عبده طه
زملائي وزميلاتي في مدرسة ( الشهيد العبيدي )
كان الدمع يطفر من عيني (ويتطعفر ) كلما سمعت المرشدي ، لكأن بين مجرى الدمع عندي وبين المرشدي ( شفرة غير سرية ) لا تنفتح إلا على صوته الغِريد .
الله .. يا الله لكم أحببت هذا الإنسان الفنان .. أو الفنان الإنسان .. هذا السهل الجبل .. هذا الممتع الممتنع .
لقد كان هذا الرجل يحفر في الصخر .. يحفر حقيقة لا مجازاًً . ، كان ( يتشعبط ) في سيارة نقل الخضار من الشيخ عثمان حتى عدن كي يدرس ويتعلم
لم يأته المجد هكذا سهلاًً ميسوراًً .. بل جاءه على تعب ونصبِ ومسغبة ! ! !
حتى استوى على القمة .. قمة وقامة
لا تحسبنًّ المجد تمراًً أنت آكله
لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا ً
إقرأوه أيها الأبناء . . في سيرته وفي مسيرته ما يستحق أن يقرأ
تاريخ طويل .. عريض من العرق .. من المعاناة .. من اليتم .. من الفقر .. من العناد والإصرار .. من الشموخ والكبرياء .. من العطاء والإبداع .. من النجاح والتألق .. من التواضع ونكران الذات
( سفر ) من الإنسانية قلما يجود الزمان بمثله
لو توافرت مذكراته بين يدي اللحظة وأنا أسطر هذه الكلمات لاقتطعتُ لكم صفحات تقطر عذاباً و عذوبة .. صبِراًً وصَبراًً بكسر الباء الأولى وتسكين الثانية .. صفحات تكتب بماء الذهب .. وتوزن بأغلى من الذهب .. من حسن حظي أنني قبيل أيام من رحيله وجدتني أختلي بمذكراته وأعيد قراءتها للمرة الثانية أو الثالثة .. وهي اللحظة بعيدةً عن متناول يدي (!!!)
من أسرة إنسانية .. بإمتياز .. نشأ .. والده من ( الشويفة – تعز ) ووالدته من أرض الصومال الشقيق .. (خلطة إنسانية ) رائعة .. رائعة
من يقرأ ( أبو علي ) بقلم ( أبو علي ) لا يملك إلاّ أن ينحني لهذا الرجل .. الرجل .. ثم لا يملك نفسه إلاّ أن يبكي .. وقد بكيت كثيراً !!!
الحت عليًّ فكرة وأنا أدير- مؤسسة التواصل للتنمية الإنسانية بتعز - سابقاًً - على الإحتفاء والإحتفال بقامات بلادنا .. وهاماتها .. با أعلامها وعلمانها في مجالات الحياة المختلفة كنوع من أنواع الوفاء الصادق وكتمرين حي للأجيال القادمة أن من لا يعطي أهل العطاء ليس جديراًً بالحياة ولا بالحياء .. نعطيهم وهم ما زالوا بيننا أحياء نقول لهم : شكراًً لكم .. منكم تعلمنا وبكم إرتقينا وتطورنا .. معكم كبرنا وقبلة وفاء ويعطيكم ألف عافية .. هل هذه معادلة ( صعبة ) أو هي تكليف مكلف .. أبداًً لا أعتقد ..
أتممت زيارة لبلبل اليمن الصداح / أيوب طارش عبسي .. مع فريق المؤسسة.. كانت زيارة رائعة ومباركة ذقنا حلاوتها جميعاًً وسريعاًً .. برغم الأصوات النشاز التي ناوشتنا من البعض
وكان على جدول أعمالي إتمام زيارة لجميل اليمن إنسانها العذب ( المرشدي ) تداولت هذا الرأي مع زميلي في عدن ( ابن الكثيري ) في ذات المؤسسة مكتب عدن .. على أن يتم تجهيز ( ترس وفاء ) ( وشهادة محبة وتقدير ) .. كررت المحاولة غير أن مشاغل الحياة وإلتزاماتها الخانقة خذلتني .. حالت بيني وبين رغبتي
ولأن الأعمال بالنيات فقد حقق الله أمنيتي على نحو مفاجئ وغير متوقع ..
كنتُ في صالة الإنتظار في مطار صنعاء قبيل أشهر أريد السفر إلى عدن ووجدتني وجهاًً لوجه مع الرجل الجميل فنان اليمن الكبير / محمد مرشد ناجي
هتفت يا لسعادتي .. ووجدتني كمثل طفل صغير أجري إليه .. أقبل رأسه أطمئن عن حاله الصحي ..
ثم استأذنته في أن التقط معه صورة تذكارية
فسرَّ بذلك ورحب .. كان – رحمة الله تغشاه – على كرسي متحرك
لكم أن فخور بهذا اللقاء الخاطف .. بهذه الصورة الأجمل التي أعتزَّ بها في ألبومي
كثيرة هي نقاط إمتياز هذا الفنان .. أولها إنسانيته الجميلة .. أخلاقه الباذخة
ثم هي ثقافته الواسعة التي جمع فيها بين لغته العربية السليمة من العيوب وكذا لغته الإنجليزية المتقنة
وكل من يستمع لأغاني المرشدي يحسُّ بذائقته الشعرية واللغوية الراقية ثم بإختياراته الموفقة التي تكاد تنعدم في أغلب الفنانين .. إلا من رحم ربك
لم يكن فناناًً وكفى ( ! ! ) كلا .. كلا .. لقد كان ( فناناًً ) وكان ( ملحناًً ) وكان ( كاتباًً ) وكان ( شاعراًً غنائياًً ) يكتب كلمات أغانيه .. بنفسة ثم يلحنها ويدندن بها ..
كان مربياًً قديراًً بفعله قبل القول .. وبسلوكه قبل تنظيره ، وكان أباًً رحيماًً
باراًً .. هو الفنان والتربوي والإداري والمثقف والسياسي والمناضل .. لكنه الإنسان من قبل ومن بعد
أَقسُّم نفسي في نفوس كثيرة
وأحسوا قراح الماء والماءُ باردُ
عدن .. ثكلى برحيك .. أبناء عدن وكل اليمن أيتام من دونك
رحلت .. ولم ترحل صفاتك النبيلة وقيمك الرفيعة رحمة الله تغشاك
لك الرحمة في الأعالي .. لأهلك وذويك الصبر والسلوان .. و لنا أجمعين
لله ما أخذ .. وله ما أعطى إنا لله وإنا إليه راجعون