من واقع الحدث في يوم المجزرة 21 فبراير التي طالت الجنوبيين
هنـاك تتبلور ملامـح وطن:
في الجهة الجنوبية لساحة العروض بمدينة خور مكسر، مساحة لا تتعدى الكيلومترات حيث المصفحات العسكرية والعربات والأطقم اصطفت لتشكل سياج قتالي معزز بمئات الجنود والمسلحين الذين اتخذوا مواقعهم في تأهب لصد العدو، بالإضافة إلى خط الحماية الذي تكفل بمهمته العشرات من القناصة الذين اتخذوا من أسطح العمارات والمباني المحيطة بالمكان مواقع حصينة لهم، واستعد الجميع دون استثناء لإطلاق النار، وهناك على بعد نصف كيلومتر من المكان المحمي تحديداً في جولة الثقافة أكثر من ثمان مصفحات عسكرية أخذت مواقعها استعداداً للمواجهة، العدو المنتظر على خط المواجهة لم يكن جيش جرار، أو ما شابه ذلك، القادم المنتظر بدت ملامحه تبرز مع مضي ثواني الوقت حيث يتصاعد هدير الأصوات القادمة التي بدأت المدينة بالارتجاج منها، أنها أصوات الآلاف من عامة شعب الجنوب وظهر للعيان بوضوح صفوف القادمون الذين كانوا يسيرون بخطى واثقة نحو الأمام يغلب عليهم الشباب الذين كانوا يهتفون للجنوب بحماس بالغ غير أبهين بكل ما حولهم، استعدت المصفحات العسكرية وشرعت تطلق نيران أسلحتها بكثافة في كل مكان ولكن ليس مباشرة على الحشد القادم، لعل المراد من إطلاق النار كان ترهيب الحشد الذي لم يأبه لها، لا لا أنها تبعث ببرقية تنبيه للجند المتواجدين في الساحة حتى يأخذوا استعداداتهم، وواصل الحشد مسيرته تاركاً تلك المدرعات خلفه تواصل إطلاق نيرانها، استعدت الآليات العسكرية المتمركزة بالقرب من الساحة وشرعت بإطلاق النار صوب الحشد القادم وثمة مسلحين يرتدون لباس الأمن المركزي يتوزعون في مواقع ومتاريس متفرقة اخذوا يصوبون نيران بنادقهم إلى الشباب، وآخرين أطلقوا العنان لأياديهم المرتعشة بإطلاق قذائف الغازات التي غطى دخانها المكان، كانت أجساد الشباب تتساقط بين شهيد وجريح وبينما انفرد البعض بالعمل على إسعاف الجرحى وسحب جثث الشهداء كان الحشد يتقدم بكل بسالة نحو المكان قاصداً الوصول إلى المنصة، تزايدت أعداد الآليات العسكرية وامتلئ المكان بالجند والقناصة واخذ الجنود ومليشياتهم بلا رحمة يحصدون الشباب، لكن الحشد يتقدم غير مبالياً بالمجزرة ولكان ثمة راية يتنازع الجيشان عليها ولكن آن يتبارز الطرفان فليس هناك من تكافؤ بين الجيشان، فالجيش الأول القادم من خارج حدود الأرض مدجج بمختلف أنواع الأسلحة، في حين الجيش الآخر مجرد من السلاح باستثناء العقيدة والإيمان بحب الوطن المسلوب وأمل استعادته والموت لأجل انعتاقه، واستمرت المعركة واستمر سفك دماء الجنوبيين، وكانت السماء ترسم ملامح نصر عظيم لشعب الجنوب وايما هزيمة تلقفها الاحتلال، وتستمر الثورة إذ يتسنى للوقت أن يرصد ثمة عظماء يدخلون التاريخ من أوسع أبوابه، العظماء هم أولئك الذين يدوسون على الموت بكل شجاعة فينهزم الموت ويتولول منهزماً فيتدحرج ليستقر في ظلمة قلوب الجند الذين أجادوا سفك دماء الأبرياء وتلذذوا بعبق هزيمتهم وانكسارهم، ففي قلوبهم المتصحرة والميتة نمت سنابل الخوف والهلع، وفي أرجاء عدن تنمو الحياة من جديد.
الصـورة تتجــلى بوضـــوح:
كنا في الضفة المقابلة للمكان (الملحمة) عشنا لحظات البطولة الجنوبية والجريمة اليمنية شاهدنا كل لحظات البطولة، الذين وصلنا صبيحة يوم الخميس الدامي بعدد لا يجاوز عدد أصابع اليد الواحدة قدمنا نحو مدينة خور مكسر وقبل أن نصل إلى ساحة الدرويش حيث يتجمع الجنوبيين هناك، اقترح احد الزملاء علينا بالعبور بالقرب من ساحة العروض لاستطلاع الساحة وقبل أن يسمع وجهت نظرنا توجه بالسؤال صوب سائق سيارة الأجرة التي أقلتنا من الشيخ عثمان وسأله، هل تستطيع القيام بجولة على ساحة العروض ومن ثم تذهب بنا إلى ساحة الدرويش، أومئ السائق برأسه بالموافقة وانطلق صوب فندق عدن حيث تتبدد ساحة العروض خلفه مباشرة، وفي الجولة المجاورة للفندق كان المشهد مختلفاً من حيث الانتشار الكبير للجنود والآليات العسكرية وهناك لا حوار حول مسالة السماح للسيارات الاقتراب من الساحة فطلبنا من السائق بالتوقف وترجل ثلاثتنا من السيارة ومضينا نحو الساحة ولم يعترضنا الجنود، وفي الساحة لا مكان إلا للآليات العسكرية ولا بشر إلا وحوش متمثلة بصورة جنود ومسلحين ملثمين في حين شرع الجميع يقيمون مراسيم الدم قبل أن يصوب احدهم سلاحه صوبنا ونحن نسير على الرصيف ولا نعلم إلى أين نريد فقط أن ننجو بأرواحنا من بطش الجنود، لكن آن لنا أن نبلغ مرادنا والموت يحيط بنا من جميع الاتجاهات، وعندما شرعت آلة الموت تطلق النيران حاولنا الاحتماء في احد الأزقة باتجاه الغرب من الساحة وفرض علينا الواقع أن نتابع تفاصيل المشهد بينما كنا نتحسس رؤوسنا بين الحين والآخر فالرصاص لم تفارق المكان الذي وقفنا فيه، قفز احد الماكثين بمعيتنا وجرى مهرولا في الساحة بغية بلوغ المنصة لكن رصاص الجند هو الأسرع فسقط مضرجا بدمائه، هرع إليه شخص آخر كان بجانبنا لكنه لم يكد يخطو عدة خطوات حتى سقط برصاصة إصابته في العنق، وفجأة وصلت سيارة الإسعاف وأخذتهما واتضح فيما بعد أنهما أصيبا بإصابات غير بالغة، وتمكنا من الانسحاب إلى زقاق آخر يوجد له منفذ إلى الشارع الخلفي وهناك وجدنا عدد من الصحافيين الجنوبيين الذين وقفوا بشجاعة يتابعون مهامهم في التصوير، هناك في تلك الأماكن كان الجميع يقومون بواجبهم على أكمل وجه وكل يكمل البعض الآخر، كل منهم يقدم حياته رخيصة لأجل أخيه لأجل الوطن لأجل الجنوب، ومن المشهد برمته تتبلور قناعة واحدة لا ثاني لها بان الجنوب سيعود بكل اعتزاز وكبرياء وان أولئك الشباب هم أولوا العزم وأنهم وبالفطرة الثورية سيستعيدون مجد وطنهم المسلوب..
حقـائق وأرقـــام من واقع الحدث:
هناك ثمة لبس في التعاطي الإعلامي الجنوبي من حيث توصيف العدو الذي ارتكب المجزرة ومن حيث نشر معلومات غير وافية، وإذا كانت الجزئية الثانية لا يعتد بها لكونها قد نشرت في ظل إرباك شديد لكن يبقى علينا تصحيحها ونشر الأرقام والأسماء الحقيقية بعد التصويب، وبالعودة إلى الجزئية الأولى فانه يتضح أن وسائل الإعلام الجنوبية والى جانبها بعض قادة وناشطي الحراك لا يتوفقون في طرح المشكلة وشرح وتوصيف الحدث والجريمة فمن حيث الطرف الذي ارتكب المجزرة هناك من يذهب لصب جام غضبه في وسائل الإعلام فيحصر الجريمة على ما يسمى بمليشيات حزب الإصلاح اليمني، وهناك من يكتفي بالإشارة نحو مسلحين جاءوا من العربية اليمنية، والحقيقة والصواب الذي يأتي من صلب الواقع يكمن في أن مرتكب المجزرة هو ذلك العدو الموثق في الصور الفوتوغرافية ومقاطع المشاهد الحية الفيديو، التي تعد الدليل القاطع على إن سلطة الاحتلال اليمني هي المسئول الأول والأخير عن ارتكاب المجزرة، تلك المقاطع تظهر آليات الجيش والأمن من مصفحات وأطقم عسكرية وأمنية وجنود جيش وامن يرتدون اللباس الرسمي اليمني يسيطرون على المكان ويطلقون نيران أسلحتهم صوب المدنيين بلا رحمة، أما مليشيات الإصلاح التي شاركتهم القتل فهي مجرد قوة ثانوية جاءت تحت حماية قوات السلطة اليمنية، وفي كل الأحوال أولئك الجنود تلقوا أوامر الإبادة من مسئوليهم الأعلى فالأعلى من مدير الأمن وقادة الوحدات العسكرية والأمنية المتواجدة في الساحة حتى قادة الألوية ووزيري الداخلية والدفاع اليمنيتين وبتواطؤ رئيس الحكومة اليمنية والرئيس اليمني جميعهم يتحملون مسئولية تلك الجرائم، ولم يستطع احد تبرئة ساحة الحزب التكفيري المتطرف (حزب الإصلاح اليمني) الذي شاركت مليشياته في ارتكاب المجزرة التي جرت مع سبق الإصرار والترصد بدليل تعمد استجلاب الآلاف من أبناء المحافظات الشمالية إلى العاصمة عدن لمزعوم إقامة فعالية لا علاقة لعدن أو للجنوب فيها فإذا كان من الضروري إقامة تلك الفعالية التي زعموا أنهم سيقيمونها بمناسبة مرور عام على انتخاب هادي رئيساً لهم فكان من الأولى إقامتها في العاصمة اليمنية صنعاء وليس في عدن أو في أي مدينة أو منطقة جنوبية أخرى لان الجنوب هو أيضا كان يحضر لإقامة فعالية سلمية في ذكرى انتصار إرادة شعب الجنوب أو ما اسماها يوم الكرامة التي انتصرت فيها إرادة شعب الجنوب في يوم 21 فبراير من العام الماضي بإفشال إقامة انتخابات مزورة في الجنوب لا يعترف بها الجنوبيين، والأمر الآخر إن ساحة العروض هي الساحة التي اعتاد الجنوبيين الاحتفال سلمياً فيها، ثم إن الصور الموثقة تؤكد انه أثناء اتجاه المسيرة السلمية للجنوبيين كانت تلك الساحة خالية من أي فعالية ولا وجود لعناصر الإصلاح فيها على الإطلاق باستثناء الجنود والمليشيات الإصلاحية المسلحة..
وبالرجوع إلى مسالة المعلومات الغير مكتملة أو التي شابتها بعض الأخطاء فانه من الواجب تصحيحها وذلك للأهمية وحتى يمكننا بناء قاعدة بيانات سليمة وواضحة ستكون مرجع مهم للثورة الجنوبية حاضراً ومستقبلاً فلابد من تمحيص المعلومات وتدقيقها فهناك جرى نشر أسماء الضحايا البعض منها خاطئة، بالإضافة إلى أرقام غير دقيقة، وبالعودة إلى سجلات وكشوف المستشفيات التي جرى إسعاف الجرحى إليها أو إدخال جثامين الشهداء في ثلاجاتها ومع مقارنتها بالأسماء المنشورة حتى ساعة كتابة الموضوع هذا فانه يتضح الآتي:
أولاً- يوجد هناك شخص مختفي لم يرد اسمه في وسائل الإعلام أو في التقارير المرفوعة إلى المنظمات الحقوقية يدعى محمد خالد احمد، من أبناء منطقة العسكرية يافع محافظة لحج اختفى يوم الخميس 21 فبراير الماضي ولم يعرف مكانه حتى اللحظة.
ثانياً- لقد ورد اسم الشهيد سالم عوض بن جبر من أبناء يافع، لحج ضمن قائمة الشهداء الذين سقطوا يوم 21 فبراير 2013م، والأمر الصحيح انه استشهد العام الماضي يوم 21 نوفمبر 2012م.
ثالثاً- نشرت قناة عدن لايف ومعظم وسائل الإعلام اسم شهيد من ضمن الشهداء الذين سقطوا يدعى عبدالله الضالعي، والحقيقة لا وجود لأي شهيد بهذا الاسم.
رابعاً: نشرت وسائل الإعلام ومعها تقارير المنظمات الحقوقية كل من مراد هيثم سعيد، من ردفان حبيل الجبر، ، وبكيل علي سعيد من يهر يافع من ضمن قائمة الشهداء بينما هما من ضمن الجرحى.
خامساً: الشهيد ذو يزن احمد مثنى وليس ذو يزن محسن كما ورد اسمه في بعض وسائل الإعلام.
وسائل الإعلام اليمنية والخارجية وتزوير الحقيقة:
ليس بغريب على وسائل الإعلام اليمنية الرسمية والحزبية والمستقلة أيضا التي تمثل أساسا العدو الرئيسي (سلطة الاحتلال اليمني) أن تعمل على تزوير الحقائق وقلب الوقائع والتسويق للأكاذيب التي تستهدف من خلالها إلى إضعاف عزيمة الجنوبيين من جهة والى خداع الرأي العام الخارجي من جهة أخرى، وقد تعاملت معظم وسائل الإعلام تلك مع الأحداث الأخيرة بكل انحطاط وتزوير، قناة سهيل تأتي بالدرجة الأولى وتوازيها صحيفة أخبار اليوم ومثيلاتها الكثير، لكنها هذه المرة أخفقت إلى حد بعيد في قلب الوقائع وعجزت عن تزوير الصورة الحقيقية للواقع، لان كل ما جاءت بها من أكاذيب سرعان ما فضحتها التصريحات المتناقضة للمسئولين اليمنيين الذين تضاربت تصريحاتهم بشان ما حصل، بل أن الصور الحية التي استطاع الجنوبيين التقاطها لحظة الحدث كانت الأقوى من شبهاتهم الإعلامية، وكانت الصورة المنقولة من ساحة العروض لمن زعموا أنهم الملايين خير دليل على حجم الأزمة التي بات المطبخ الإعلامي اليمني يعيشها اليوم ضف إلى ذلك إن هناك الكثير من ممثلي المنظمات الدولية تواجدوا وراقبوا عن كثب كل ما حدث.
بالنسبة لوسائل الإعلام الخارجية وكالمعتاد وقفت قنوات كـ الجزيرة والبي بي سي والعربية في ذات الاتجاه الذي يعتمد ويستقي كل معلوماته من المطابخ الإعلامية التابعة للسلطة، لكن السقوط الأخلاقي الكبير كان من نصيب مراسل البي بي سي (عبدالله غراب) الذي عمل على تزوير الحقيقة ونقل الأخبار بصورة تسيء لمكانة وتاريخ وكالة إخبارية وقناة كالبي بي سي، هذا الغراب الذي حاول أن ينقل الصورة مقلوبة تماماً لم يستح عندما أوصل خبر مقتل ثلاثة جنود على أيدي الحراك الجنوبي، يا للعار أيتها الوكالة الإخبارية العالمية التي مثلت ذات يوم المصدر الإعلامي الأول في العالم من حيث دقة ومصداقية معلوماتها، كيف يا ترى سينظر إليها كل من تابع أخبارها التي جاءت بخلاف ما حدث جملة وتفصيلا حيث حولت الجلاد إلى ضحية والضحية إلى جلاد.
أخطاء وثغرات بحاجة إلى تفاديها في المرات القادمة:
في كل مرة يخرج شعب الجنوب إلى الساحات لإقامة فعالياته الاحتجاجية المطالبة باستقلال الجنوب تظهر الكثير من الأخطاء وتتكرر دائماً لكن هذه المرة الإنسان البسيط يدرك فداحة الخطأ المتمثل بغياب دور اللجان التحضيرية التي لم أغفلت مسالة وضع احتمالات حول ما حدث وكان من الأولى إدراج لجنة إسعافات أولية ضمن اللجان التحضيرية لان المشاركين وجدوا صعوبات بالغة في إسعاف الضحايا وتظهر لنا الصور كيف أن احدهم كان يحاول إسعاف احد الجرحى ولم يتمكن من ربط الجرح لوقف نزيف الدم، في حين إن بعض الجرحى تضاعفت حالاتهم في الطريق إلى المستشفيات وآخرين فقدوا الكثير من الدم بسبب النزيف الحاد، نحن بحاجة إلى تشكيل غرفة عمليات ترتبط بمراسلين ميدانيين يجري توزيعهم على مكان الفعالية وفي المستشفيات التي يجري إسعاف الجرحى إليها وذلك لتدوين كل ما يجري وإبلاغ غرفة العمليات بها وقت حدوث أي طارئ لحظة بلحظة.
عدن اليوم /خاص