الرسالة الثامنة: إلى حزب الإصلاح
تصحوا قيادات حزب الإصلاح كل يوم لتدافع عن الثورة، الثورة كما تتخيلها!
زرت صنعاء في أغسطس الماضي. التقيت أحد صناع القرار في الحزب. حدّثني عن "الداهية صالح". على قهوة قريبة من المكان جلستُ. وبمصادفة محضة التقيت شاباً إصلاحياً في الثالثة والعشرين. حدثني بشجاعة ودقّة عن صالح الذي بلا عقل.
تركته على وعد بالتواصل، ولم أره بعد ذلك. في طريقي كنتُ أحدّث نفسي عن مقولة الروائي الفرنسي بلزاك "ت. 1850" عن نفسه وأمّه:
"بيضة نسر تجلس عليها إوزّة."
في يوم من الأيام كنت مثل آخرين. كنتُ عضواً في حزب الإصلاح، وكانت الإوز تنام فوقنا. ولأنني كنتُ منشغلاً بالقراءة فأنا لم أسمع مما تقوله الإوز شيئاً، ولم أنتبه إلى أنها كذلك إلا بعد زمن. حزمت حقيبتي وأغلقت الباب عليها في الداخل. إنها هناك، لا تزال كما كانت تجثو على الكثير من بيض النسور.
حزب الإصلاح نظام كبير يعتقل الكثير من أصدقائنا. كانوا معنا في كل مكان، في الأماكن التي لا نزال نعتقد أنها صحيحة. أعادهم مرّة أخرى إلى الداخل، وجهّزهم للمعارك القديمة. رأيناهم في الثورة يخططون مجسمات للجسور والسدود. غير أن الحزب سرعان ما استعادهم من المستقبل، وحولهم إلى "أسرى ينصبون المتاريس".
الإخفاقات السياسية بالنسبة لحزب الإصلاح هي "ابتلاء". أي أنها، بالمعنى الكلي، مكاسب إلهية. لذلك فهو لا يراجع حيوده، ولا يرى قصوره. إذ كيف يجرؤ على مجابهة تدبير الخالق! وعندما يساهم في صناعة أزمة وطنية فهو لا يرى سوى الآخرين، وهم في الغالب أعداء. الآخرون دائماً هم الذين يفعلون، بتعبير دنقل. من الخطأ الاعتقاد إن الإصلاح يزاوج بين الدين والسياسة. فهو يرى السياسة مجرد شعبة من شعب الإيمان. ولأنه احتكر معرفة مراد الله منذ زمن فإنه يرى مساهمات الآخرين في السياسة، عندما تتصادم مع تصوراته، مجرّد معاصٍ وذنوب. بالمعنى السياسي: تخريب.
في هذه الظروف يلتقي كهول الحزب. بالمناسبة: لا يوجد فيهم شخص بسكسوكة. توجد طرق أخرى للقول إنها حركة دينية خالصة، أما أنا فأرى هذه الجملة هي التعبير الأفضل عن الفكرة.
يثرثرون كثيراً عن التحديات، وتنتهي كلماتهم عن هذه الحدود. في كل يوم، وما إن يصلوا للحديث عن تلك الكلمة "التحديات"، سرعان ما يبتهلون بالدعاء. لكن النصر الإلهي لا يجيء. يقول كهول الحزب: ابتلاء سنجني ثمرته في الجنة. وهكذا. يجني كهول الإصلاح ثمار الأزمة الوطنية في الجنة، ولا نجني نحن سوى المزيد من العتمة، والخوف.
قال لي أحد صنّاع القرارات في الحزب، في لحظة تجلّي: أنت ترى الأمور أوضح منّا، لأنك تنظر إلى المشهد كلّه أما نحن فنستهلك في عمل الأوراق والترتيبات اليومية.
عنى لي كلامه في ذلك اليوم الكثير. ليس لأنه تحدّث عني بل عنهم. وبدلاً عن أن يمنحني الثقة فقد أصابني بالرعب. كانت كلماته، في تلك الساعة، أشبه بترتيلة جنائزية على سفينة تائهة.
من المؤكد أنه قال تلك الجملة لآخرين في حزبه. لكن مثل هذه الاعترافات لا تعني في الواقع شيئاً. فصحيح إن الكهول المؤمنين يقضون في العبادة أكثر مما يقضونه في قراءة الكتب التي تتحدث عن السياسة أو الاقتصاد، إلا أنهم لا بد وأن يبقوا في المقدمة إلى الأبد. ثمّة مهمة قدسية هي أعلى من كل ذلك: حراسة الإيمان.
عندما تتأزم الأوقات يتحدث الكهول عن الإجماع الوطني. بانقشاع الضباب قليلاً، أي ما إن تسكن الريحُ شيئاً ما، حتى تتغير الكلمات. تخرج كلمات على شاكلة الأغلبية والانتخابات والقوة على الأرض. كانت هذه أيضاً هي ورطة الإخوان المسلمين الأخيرة. هذه النفسية ليست جديدة، فهي ممتدة في التاريخ، تعود إلى أصلها لدى قريش قبل البعثة: الإيمان في البحر، الكفر في البر. لكن، وهذه نصيحة، لا ينبغي أن نخوض في مثل هذه التشبيهات، فهذا ملعب الكهول.
لكي تتخيل الأزمة الوجودية تذكر هذا الأمر: لا يوجد نموذج سابق للحياة الديموقراطية، سياسياً ولا اجتماعياً، في اليمن. في هذا الفراغ يلجأ كهول الإصلاح إلى قراءة تاريخ الإخوان المسلمين الشخصي: تاريخ صراع وطني داخلي عمره قرابة قرن من الزمن. لا علاقة للجماعة الوطنية في اليمن بذلك التاريخ الفرعوني الخاص، لكنه الإنجيل الوحيد الذي يجلبونه عبر الحدود.
هذا التاريخ يقسم الشعوب إلى خونة وأبطال، إلى قتلة وشهداء، إلى معذبين وجلادين. في هذه الحسينيات الطائلة لا يمكن للمرء أن يستخلص شيئاً سوى مزيد من الدراما والدموع. كأنك أمام فيلم "آلام المسيح" بما يوقظه في أعماقك من لذة للألم، وللنحيب لساعات. ثم ينتهي كل شيء. لذلك، يفكّر الكهول "لا ينبغي أن ينتهي كل شيء". يعودون إلى التاريخ، يبحثون عن الزمن المفقود: الخلافة.
دالة بلا ملامح، وبراند بلا منتج. كانت الخلافة مجرّد إمبراطورية جديدة من إمبراطوريات ذلك الزمن، كإمبراطورية الصين، وفارس، والرومان. تغير الزمن كليّاً مئات المرات منذ ذلك الحين. لم يعد الكوكب يسمح بنشوء إمبراطورية، بل بنمو مجتمع بشري فسيفسائي يتحرك ككتلة واحدة إلى المستقبل. تعمل شركة أميركية، الآن، في وادي السيلكون في كاليفورنيا على إطلاق خدمة كونية تتيح لكل شخص في العالم معرفة كل الوظائف المتوفرة في كل بقعة في العالم، مع معرفة الأماكن التي توفر تدريباً مناسباً لهذه الوظائف في كل مكان في العالم، مع التكاليف المطلوبة .. إلخ. هذه هي الخلافة الجديدة، الخلافة الكلّية الشاملة: خلافة الإنسان الجديد للإنسان القديم على هذا الكوكب.
الكهول لم يعودوا قادرين على ملاحظة هذا التحول الكلّيّاني المذهل في الكون. في مؤتمر حول التقانة والمستقبل، يونيو 2013، تحدث خبراء مستقبليون عن إمكانية تحميل الدماغ البشري عبر الشبكة الإليكترونية بحلول العام 2045. أي تحقق فكرة الخلود.
لكن الكهول وجدوا ضالتهم في التاريخ: الخلافة عبر درع ابن الوليد وسيفه.
بمقدور المرء أن يكتب عن الإصلاح حتى تنتهي الكلمات، ولا تنتهي الحكاية. ليست مشكلة المرء أن يكون كهلاً بالمعنى الزمني، الكرونولوجي، بل كهلاً بالمعنى المعرفي والنفسي. تفوقت حركة النهضة التونسية على نفسها عندما أنصتت جيداً إلى الصوت القادم من الضفة الشمالية للمتوسّط. لكن نظيراتها في دول أخرى وقفت على المقابر، وأنصتت كثيراً، ثم عادت إلى السجون. لا يهزم المرء لأن خصمه قوي، بل بسبب عدم قدرته على فهم قوة خصمه، في المقام الأول. ثم بسبب تخيله للوجود على شكل حديقة ميتافيزيقية معقّدة من المفترض أن ينزل جنود الإله في أحد أطرافها ليحسموا المعركة لصالحه. كل ما في الأمر أن الطرف الذي لا يصدق الحكاية التي تقول أن جنود الإله سينزلون غداً أو بعد غد هو الطرف الذي ينتصر.
أكثر ما أخشاه هو:
ما إن تموت الإوز التي تجثو على بيض النسور منذ زمن حتى نجد الحقيقة المفجعة: أن يكون البيض قد فقس، بالفعل، وخرجت منه فراخ إوز بيضاء بلا عدد، تنتظرها مهمة وحيدة "أن تجثو على البيض في المستقبل".
وأسوأ من كل ذلك أن تكون آخر بيضة نسر قد فقست بالفعل، وأنتجت إوزة.
م. غ.