الرسالة السابعة إلى حميد الأحمر
أنت لستَ مشكلة، يا حميد، بل نافذة لرؤية المشكلة الوطنية بكل تعقيداتها. ملحوظة: بالنسبة لآخرين يمكنهم قراءة اسمك بشكل تلقائي "الشيخ حميد". أنت لا تعرفني، ربما. أنا أيضاً لا أعرفك. هذه الرسالة ليست شخصية. فليس ثمة من مشكلة شخصية بيننا. أنت شخص يملك الكثير من المال. في حياته بذل القليل من الجهد ليحصل على كل ذلك المال. أما أموالك فتكبر بسرعة بالرغم من أنك لا تنتج البضائع. لنفترض أنك بدأت حياتك المالية ب"صندقة". إذن، من المناسب أن نتذكر أنك كنتَ الشخص الوحيد الذي سمِح له بامتلاك صندقة، آنذاك. وعندما بلغ نظراؤك، من أبناء الطبقة المختارة، سن امتلاك صندقة تقدمتَ أنت خطوة إلى الأمام. تحدثت عن الهبة الشعبية. أي تلك الموجة الجماهيرية التي أردت لها أن تقتلع الصندقات الجديدة كلها، على أن تبقي على صندقتك.
اخترع ماركس دالة "البورجوازية". بالنسبة لماركس فالبورجوازية هي الطبقة التي تراكم الثروة بسبب وجودها بالقرب من أنظمة الحكم. يمنحها النظام امتيازات تاريخية، فتحتكر السوق والحياة العامة. مع الأيام أصبحت تلك الطبقة تنعت بالحقيرة. لكن الماركسيين العرب، كعادتهم، اختلط عليهم الأمر. فأنت بالنسبة لهم تنتمي للبورجوازية الحقيرة. وبالرغم من أن مجايليك ونظراءك، كالشائف والعواضي، ينطبق عليهم التعريف المادي الجدلي ذاته، إلا أنهم يسقطون سهواً. تشابهت صندقاتكم، واختلط دخانُها. وبالمعنى العلمي لا يمكن وضعكم، جميعاً، سوى في خانة واحدة. أعني عندما نجري توصيفاً أو تشريحاً بيانياً للمجتمع، أو للطبقات. لكن ذلك، لأسباب مفهومة وغير مفهومة، لا يحدث على الدوام.
دعنا لا نلعب بالوقت في الحديث عن الماركسيين العرب، بل عنك.
في رمضان الماضي، وكنتُ أحاول أن أتخيل "إيمان"، كنتُ أعبر العاصمة بعد الفجر بالسيارة. مررت أمام قصر الشائف في الحصبة. لم يكن عظيماً وحسب، بل مرعباً. وفيه مسجد لصلاة التراويح. أما قصرك، على الضفة الأخرى للعاصمة، فلم يكن يقل عنه روعة، وليس فيه مصلى للتراويح. صديقي الذي يعمل على الحدود منذ ربع قرن قال إنه لم يرَ قط بضاعة من صنعكما. لا يمكن القول إنكما كنتما تسرقان المال من جيوبنا، فنحن لم يكن لدينا مالاً يصلح للسرقة. أنتما شيخان كبيران، وهذه الجملة تصلح للبيع. نحن البضاعة الوحيدة التي تبيعانها عبر الحدود.
حسناً، هذا الأمر باعترافك، بالطبع. قلتَ إن السعودية كانت تنفق على أبيك. أما أبوك فهو الذي عبأ صندقتك بالبضاعة. تلك التي لا يعرفها أحد. هل لديك تعريف آخر للبورجوازية القذرة؟
هنا تكمن المشكلة الرئيسية، في تقديري.
قبل ثلاثة أعوام كنتُ في مقهى. قال لي صديق "سنذهب بعد ساعة إلى مقيل حميد الأحمر، ما رأيك لو تأتي". كانت الساعة الثانية بعد الظهر، وكانت سماء صنعاء مائلة للزرقة. غادر صديقي المقهى، ولم يطرح علي الفكرة بعد ذلك قط. كان يحدثني عن ثوريتك، وكنت أقول له إن الأمر لا يعدو كونه شكلاً من أشكال التناقضات المستعصية التي تنشأ داخل الطبقات البورجوازية. اتضحت الفكرة لدي في العام 2008عندما غادر الشاب القاضي صنعاء غاضباً. في القاهرة قال إن النظام فاسد، ولا بد من الثورة عليه. كان يستعرض صفقات صالح القذرة على جهاز لاب توب. رفع السماعة وهاتف مثقفاً يمنياً يقيم في تلك المدينة. سأله صديقنا المثقف عن مكانه، فقال "أنا الآن في فندق فور سيزونس". تمهّل المعلّم الكبير قليلاً، ثم أجابه: الثورة لا تخرج من فور سيزونس يا عزيزي.
ثم لم يتبادلا الحديث عن الثورة بعد ذلك.
... "الوالد رحمه الله" استجمع كل قواه وأنجب صالحاً. أنت لا تحاول تصحيح خطيئة الوالد، بل تعود إلى مكانه، تستجمع كل قواك وتحاول إنجاب خطيئة أخرى.
وعندما كان شباب حزبك يهرّبونك في سيارة أجرة، في العاصمة، كانت الأمور تجري على ما يرام. أعني: الثورة. وما إن غادرت التاكسي وظهرت مرّة أخرى في الواجهة تتحدث عن المستقبل، متحاشياً الماضي، حتى ساءت الأمور مرّة أخرى.
ليس صحيحاً أنك تفعل كل الأمور الخاطئة في البلد، مثلما ليس صحيحاً أنك تفعل الأمور الجيدة. فمثلاً أنت وكيل لأكثر من ثلاثين شركة دولية ليس من بينها جامعة واحدة!
صدقّني، عندما ترى الكثيرين يدافعون عنك عليك أن تستنتج أمراً واحداً أخلاقياً، وهو أن المحتاجين كثيرون. هؤلاء المحتاجون هم أبرز الإشارات على انحطاط زمن "الوالد رحمه الله". ولكي تفهم كلامي كما ينبغي، فجدّي أيضاً عاش في زمن الوالد رحمه الله. قال جدي قبل أن يموت إن الصدفة لم تحسن اختيار والديه. قالت له جارتنا العجوز، وكانت تحبّه في صباها، إن أبويه كانا طيبين، لم يتاجرا بالبشر، ولم يبنيا قصوراً بالقرب من بيوت الفقراء.
ابتسم جدّي. مات منذ سنين، لكنه لا يزال مبتسماً حتى الساعة. لقد اكتشف الحقيقة دفعة واحدة.
وهكذا ..