عدنُ الغد .. وهل عادت القضيَّةُ للمُطاردة ؟!!
كم هي تلك "الأيام" مليأة بالوجعِ والأسى ، لا نلبث بِكُنْهِ فرح قليلٍ لانبثاق ثغرةٍ من نورٍ قادمٍ من وراء سياجات السَّجَّان ، إلَّا ويأتينا "السَّواديُّون" بألوانهم المُقتمة ، كيما يُرصِّعوا بها لوحتنا العدنيَّة بكلِّ ما هو سيِّء ، والجسد الجنوبي -وحده - "ساحةٌ" للضربات الماحقة لكينونته وهويته وصوته ، وكلَّما صعد طائرٌ يُحلِّق عالياً أسقطته رصاصاتهم العارية ، التي تريد أن تُبِيد كلَّ هذا الجمال في عدن السَّاحرة ، لاقت القضية الجنوبية مطارداتٍ كثيرة وهبطت في أثناء ثورة الشباب لانشغالاتٍ أخرى ، وهاهي ذي الأيام بدأت تلوح في الأفق ، أفق المطاردات من جديد وبوجهٍ غير ذاك الوجه الذي حمله طائر الشؤم .
هي "الأيام" إذاً دارت برحاها !، كي تُكرِّر نفس حِلقاتها المُلتهبة ، قُتِل "الأمس" واليوم يريدون فتكاً بـ"الغد" !! ، وضحيَّتهم السَّليخةُ في هذا كلِّه "عدن" ، عدنُ .. المحراب الذي يتهجَّدُ المتعبِّدون تحت ظِلالاته ، ليُلقمونها الأشواك التي تُغرز ألماً لا ينفكُّ عن خاصرتها ، هذا الألم من أجل القضيَّة والوطن ، من أجل تلك الجماجِم التي هشَّمتها رحى تلك المدافع ولا زالت ، من أجل تلك التي قالتها الفتاةٌ الصغيرة تريد "قنبلةً" كصديقتها ، لماذا صديقتها أخذتها قنبلة وهي لا.. !، أوَبَعدَ كلِّ هذا الجمالِ المصلوبِ جمال ؟
كلِّ شيءٍ يحمل اسم عدن أو ما يدلُّ على هويَّتها يُضرب في الصميم ، عدن التي يكتسي بلون "الحُمرة" خدَّاها الورديَّين ، وعدن في هذا المقام هي .. "عدن الغد" ، التي نشأت من التراب ، شكَّلت صِلصِالها ونفخ الشعب فيها من روحه ، فإذا هي صحيفةٌ سويَّاً ، نختلف مع محرِّريها الشَّباب كثيراً ، ولكنَّنا جميعاً نُيقِن أنَّ الاختلاف في الرأي لا يُفسد للودِّ قضية ، وعلى ذلك قبِلت عدن بنا في أحضانها ، نترعرع في حِجرها ونأكل من حشاشها ، ولا تتوقَّف الحياة فيها إلَّا إذا أوقفوا نبضها وهم الآن يُحاولون ..!
ما أشبه الليلة بالبارحة !! .. القمع هو "وجه الشَّبه" والقضيَّة العادلة هي "الموؤدة" بأيِّ ذنبٍ أُفِكَت ، إن كان لنا علمٌ أو ألقينا السمع ، وصوت القضية الموؤودِ اليوم هو "دمُ قلوبنا" الذي أنفقنا عليها صُراخات إخواننا وأطفالنا وأهالينا الذين سقطوا بين كلِّ غارةٍ وغارة ، كان الصَّوت المُتحشرِج من بين الحناجر حينها قد ولِد ، والمولود من رحم الأيام الصحيفة الأم ، والأبُ رحمات الله تسكنه حيث ينام الآن ..
"عدن الغد" ليست معلماً تاريخياً يُزيله الأسيدُ المُعتاد ، إنَّها صنيعةٌ شباب الوقت الحاضر المُتعولم فوق كلِّ الحدود ، إنَّها القلم "الطارئ" في زمن اللَّحظة ، كم نشعر بالألم الخارق فوق العادة – كصحفيين بشكلٍ أخص - عندما نسمع عن قربٍ زوال صحيفةٍ أياً كان نهجها ، حتى لو كانت ترتكب بعض الأخطاء ، التي نقف جميعاً لمؤازرتها وإصلاحها ونكمل المسيرة التي كُنَّا قد بدأناها معاً ؛ فكيف لنا بـ"عدن الغد" وأوراقها صُنِعت من أشلائنا الحارَّة .. من حرائق مصنع الذخيرة في أبين "4 أكتوبر" و"معجلتها" وحوافيها وشوارعها المدمَّرة ، ومن أشلاء "سناح العزاء " .
من رمز الطفولة ياسمين وأختها وأُمَّيهما ، وما نبت في أحشائها ، ومن أدمغة شباب المنصورة وأطفالها ، نزار يا ذاك الطفل الذي أخرجوا من رأسه "شيطان الحراك الجنوبي" ، وأمه تلك التي كانت تغوص في أحشاء ولدها ؛ كي تبحث عن نبضةٍ شاردةٍ هنا أو هناك ، وإلى اليوم أظنُّها تبحث عن موضع الألم في كلِّ بوصةٍ من جسدِها دون أن تستطيع تحديده ، لقد سلَّموها أمانة وجعٍ تحمله إلى يوم الدِّين ، من شيخ حضرموت الذي سفح دمه أمام مرءا العالم ومسمعه من أطفال ردفان الأبرياء من كلِّ جسدٍ خائر .. نعم كل جسد ..
ويـــــلي على تلك الأرواح المبعثرة في كل مكانٍ من أرضنا ، الصاعدةُ إلى السَّماء قبل أن تنضج ، وويلي على أشلاء تلك الأيَّام "الحمراء" ، التي قضتها قضيتنا وشعبنا ركضاً على حدِّ سَّكاكين مسمومةٍ تلمع كأنياب تلك الذئاب في السراديب المظلمة المنتظرة في مِفرقِ كلِّ طريق ، الدَّواة دماءُ أطفالِنا الذين سقطوا ظُلماً وعدواناً ..!، ويستمرُّ حمَّام الدم ، وتستمرُّ الكتابة ، وهناك ارتباطٌ وثيقٌ لا يفهمه غرباءُ هذا المُنحنى .
لا نُجيد صِنعةً سواها ولا نأبه لغيرها ، طالما أنَّ هنالك أنوارٌ مؤكَّدةٌ في نِهاية كلِّ نفق ، نور عدن الأمس"الأيام" ، وعدن "الغد" ، وهنيئاً .. هنيئاً لنا تِبريزُ نصرِنا الموعود ، المُزيل لكل غُصَّةٍ أو كُربةٍ لا زالت في الحلق.. وكما تستمرُّ دماء أطفالنا بالتَّدفق سيستمرُّ تدفق مداد طباعة "عدن الغد" ، وبين لون "الدَّمَينِ" - لون الصحيفة ولون دماء أبنائنا - عبرةٌ لمن يتفكَّرون ، وإن توأد صحُيفتنا فقد وئِدت أختٌ لها من قبل والله المُستعان على ما يصنعُ الظَّالمون.. !!!