حديث آخر عن مأزق استيعاب الحركة الحوثية "1-2"
عند التعامل مع حركات الإسلام السياسي لا يجدر بنا مقارنتها مع بقية الحركات السياسية التي تكون مرجعيتها أفكار وكتابات بشرية, فالأولى –حسب ما تعتقد- تستمد منهجها –الديني- من السماء وبالتالي فان تغيير ذلك المنهج بحاجة الى رسالة سماوية جديدة, فيما الثانية تكون القابلية للتغيير أكبر والاعتراف بالأخطاء في المنهج أو عند الممارسة أسهل, ومن هنا يجدر بنا التركيز فيما يخص حركات الإسلام السياسي على برنامجها السياسي لا على منهجها الديني, ننتقد ممارساتها الخاطئة عندما تستلم أو تشارك في السلطة, ولا نستمر في العزف على الأخطاء التي ارتكبتها أنظمة الخلافة أو الإمامة.
منذ دخول البشرية في عصر الإيمان بعد قرون طويلة سادها عصر الأسطورة والدين والتدين فاعل أساسي في حياة المجتمعات, وعلى مختلف المستويات بما فيها السياسية وإدارة الحكم, ومع بوادر ظهور عصر العلم حصل صراع مرير بين رواده وبين كهنة عصر الإيمان, ولم يكن الصراع ابداً بين العلم والايمان, أو بين العلم والمؤمنين, بل بين "كهنة" و "ملوك" مستفيدين من عصر الأيمان و"علماء" حاولوا الارتقاء بشعوبهم, عبر استكشاف العالم على المستوى المادي وعلى مستوى الانسان نفسه, والبحث عن أفضل الوسائل التي تمكن الانسان من السيطرة على الطبيعة وتجييرها لمصلحته, والسيطرة على النزعة الطبيعية في السعي الى السلطة عبر تنظيمها, تجلى هذا الصراع أكثر في أوربا وحوكم واتهم بالهرطقة واعدم بسببه عشرات العلماء والمفكرين واحرقت آلاف الكتب.
توالت الأحداث والصراعات والنظريات, وظهرت أيدولوجيا بشرية متعصبة في مواجهة الايدلوجيا الدينة التي اسيء تأويلها واستغلالها, تطرفت بعض النظريات أو على الأقل القائمين على تنفيذها فدخلوا في صراع مع الدين والتدين, وحاولوا فصل المجتمعات عن معتقداتهم ومحاربة التدين على كل الأصعدة والولوج حتى الى الأفئدة لنزع معتقداتها, والمشكلة أن بعض تلك التصرفات تمت تحت عناوين جميلة مثل التحديث والمدنية والمواطنة المتساوية.
مر الشرق الأوسط ببعض التجارب مثل تركيا وتونس وغيرها من البلدان, حاولت الأنظمة فيها جاهدة قمع الدين والتدين تحت عناوين مختلفة, واحياناً تحت عناوين التحديث والحرية والديمقراطية كما حصل في تركيا, حيث قمعت المرأة مثلاً لمجرد أنها تلبس الحجاب –غطاء الشعر- ومنعت من دخول البرلمان أو حضور المناسبات الرسمية المهمة, وقمع الرجل الملتحي وحرم عليه الوصول حتى الى بعض الوظائف المدنية التي لا تحتاج الى توحيد المظهر كما في العسكرية, وفي الأخير فشلت تلك الأنظمة في تحقيق الرفاهية لشعوبها, وكانت ردة الفعل المجتمعية هي بمزيد من التدين, الذي ظهر جلياً في أولى التجارب الديمقراطية الحقيقية في تلك البلدان حيث فازت الأحزاب ذات المرجعية الدينية على الأحزاب ذات المرجعيات الانسانية.
النجاح الذي رافق تجربة الدول الأوربية وبالأخص الغربية منها نابع من فهم عميق للعلاقة بين الدين والسياسية, أو بين المذهب والسياسة, حيث اكتفت تلك الدول بوضع دستور –عقد اجتماعي- وقوانين تنظم العمل السياسي, والتزم الجميع بذلك العقد الاجتماعي الذي يساوي بين المواطنين في الحقوق والواجبات بغض النظر عن خلفياتهم الدينية والمذهبية, ولم تتدخل تلك الدول في أديان أو مذاهب بعض مواطنيها بحجة تناقض بعض معتقداتهم مع الدستور أو القانون, ولم تمنع قوانين بعض الدول الأوربية انشاء الأحزاب على أسس دينية, وظهرت أحزاب تعتبر امتداد "للديمقراطية المسيحية" وهي إيديولوجية سياسية تسعى لتطبيق المبادئ المسيحية في السياسة العامة, ظهرت في أوروبا في القرن التاسع عشر تحت تأثير المحافظين والتعاليم الاجتماعية الكاثوليكية، ولا تزال تؤثر في أوروبا وأمريكا اللاتينية، وإن ضعفت في عدد من البلدان بسبب العلمنة، فهي لا تزال تسيطر على الأغلبية في البرلمان الأوروبي, ومع ذلك لم تستنفر المدرسة العلمانية بأحزابها ومثقفيها وكتابها وتجيش اعلامها لاتهام تلك الأحزاب بأنها جماعات دينية كاثوليكية كهنوتية ستعيد أوربا الى العصور الوسطى.
ومع فصل الدين عن الدولة في الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً لا يزال تأثير الدين حاضراً في السياسة الأمريكية حيث يشترط الدستور الأمريكي أن يكون الرئيس مسيحياً, ولا تزال معالم السياسة الأمريكية الخارجية في العالم تدار بعقلية دينية على يد التيار المحافظ والذ أصبح يطلق عليهم اليوم المحافظون الجدد, وما تبني أمريكا لإسرائيل الا نتاج لأفكار هذا التيار المستندة الى العقيدة المسيحية والتي أنتجت الحركة الصهيونية, وقد استفاض الدكتور عبدالوهاب المسيري في شرح ذلك في موسوعته "اليهود واليهودية والصهيونية", وما قاله بوش عن الحرب الصليبية لم يكن زلة لسان بقدر ما كان كشفاً للحال.
وضع المشرعون في الدول الغربية القوانين التي تكفل المساواة والمواطنة المتساوية, وتركوا أمر انشاء الأحزاب والتكتلات لظروف المجتمع وواقعه, والمطلوب من تلك الأحزاب أو المجموعات هو ممارسة العمل السياسي وفقاً للقواعد التي اتفق عليها في العقد الاجتماعي, ولم تحشر تلك الحكومات أو الأحزاب المدنية نفسها في شأن أي قوى سياسية نشأت بناء على مرجعيات دينية, طالما هذه القوى تعلن التزامها بالدستور والقانون.
ظهرت الإشكالية في بلدان العالم الثالث بسبب أن بعضهم استلهم التجارب الغربية وحاول اسقاطها على واقع بلده, دون أن يعي أن تلك التجارب كانت نتاجاً لحركة تفاعل داخل المجتمع الذي نشأت فيه, ونجحت لأن كل تجربة عبرت عن خصوصية ذلك المجتمع دون غيره, لذلك نلحظ فوارق كبيرة بين الديمقراطيات الغربية شكلاً ومضموناً, فديمقراطية كل بلد كانت نتاجاً لحاجات مراكز القوى التي فيه والتي تعبر عن مكونات المجتمع نفسه الاجتماعية منها والدينية, والهدف منها تنظيم الصراع بين تلك المراكز واستيعاب أكبر قدر من الحقوق والحريات العامة لكل المواطنين, لكن في نفس الوقت ظلت مراكز القوى التقليدية في كل بلد متحكم رئيسي في نتاج العملية السياسية ورسم امتداداتها الدولية.
الديمقراطية او العلمانية أو المدنية أو الجمهورية ليست غايات في حد ذاتها, كما أنها نسبية حتى في المجتمعات الغربية, واذا فُهمت خارج أنها وسائل تنظم الصراع والتدافع بين البشر أدت الى نتائج عكسية, خصوصاً عندا يحولها البعض الى عقيدة أو ايدلوجيا ستؤدي حتماً الى نتائج كارثية كالنتائج التي أفرزتها أنظمة الحكم المستندة على الأيدلوجيا الدينية, ولدينا تجاب كثيرة غربية وشرقية سُحقت شعوبها تحت عناوين براقة كالعلمانية والجمهورية والديمقراطية والمدنية والوطنية, وأفضت الى مظالم أبشع نوعاً وأكثر كماً من التي ارتكبتها أنظمة ملكية أو سلالية أو دينية.
لكل مجتمع هوية خاصة به تميزه عن بقية المجتمعات, وقطب الهوية هو العقيدة "الدين والمذهب", وتدور العادات والتقاليد والثقافة في فلك ذلك القطب, لكننا نلاحظ أن الكثير من نُخبنا المثقفة والمتأثرة بالحضارة الغربية تدخل في خصومة مع الدين والمذهب على اعتبار أن الدين هو العامل الرئيس في تخلفنا, وكأن التقدم مرتبط بمدى تخلينا عن موروثنا الديني أو المذهبي -وليس بمدنا فصلنا بينها وبين سياسة الدولة- أنا لا أتحدث هنا عن النقد البناء الذي يوجه بهدف الإصلاح بل الى النظرة الاستعلائية التي يوجهها البعض الى الدين والمتدينين.
لا يفهم البعض أن التقدم في العالم الغربي لم يكن على حساب الدين أو المذهب, بل أن تقدمهم أدى الى ازدهار الدين والتدين داخل أوربا وأمريكا, وأدى كذلك الى انتشار المسيحية أكثر في الكثير من البلدان بدعم مباشر وغير مباشر من الحكومات الديمقراطية العلمانية الغربية, لأنهم يعتبرون ذلك امتداداً لهويتهم التي يسعون الى غزو العالم عبرها, ابتداءً بالدين مروراً بالثقافة وبالعادات والتقاليد, وللعلم فان المتدينون الملتزمون دينيا في الولايات المتحدة الأمريكية يمثلون أكثر من 70 %.
لكل بلد هوية وطنية جامعة ناتجة عن الإحساس بالمصير والجغرافيا والمصالح المشتركة, وناتجة أيضاً عن الثقافة المجتمعية المشتركة التي تراكمت عبر العصور, وداخل هذه الهوية الجامعة توجد هويات فرعية لا تتعارض مع الهوية الجامعة بل تعتبر جزء منها, والتعدد في الهويات الفرعية يؤدي الى ثراء وغنى المجتمع على مختلف المستويات وبالأخص المتعلق بالثقافة والفنون والموروث الشعبي.
الوطنية لا تعني أن تُسحق الهويات الفرعية في هوية وطنية جامعة تصنعها أنظمة سياسية, ولا تعني اجبار بعض المواطنين على ترك معتقداتهم الخاصة أو قناعاتهم الدينية أو المذهبية بحجة أنها تتعارض مع الهوية الوطنية.
الاستقرار السياسي الطويل ولعقود قد يؤدي الى تلاشي أو اضمحلال بعض الهويات الفرعية وتشكيل هوية جامعة من تلك الهويات الفرعية عبر تفاعل طبيعي بين أفراد المجتمع خصوصاً مع التطور الهائل في وسائل الاتصالات والنقل والتي أصبحت معها بعض البلدان أشبه بالقرية الواحدة, لكن لا ينبغي أن تُفرض تلك التحولات من قبل الأنظمة السياسية لأنها ستتحول الى صراع وأداة لتفجير المجتمع من الداخل, وذلك بالضبط ما أنتج الحوثيين أو حركة "أنصار الله" وما سينتج حركة أخرى في ما بات يعرف بإقليم الجند.
حاول النظام في اليمن ولعدة عقود تغيير الخارطة المذهبية مستخدماً أدوات وإمكانات الدولة, وفتح المجال أمام مذاهب وتيارات اسلام سياسي وافدة من دول شقيقة للانتشار ومُسهلاً وصول كافة اشكال الدعم اليها, وقدم لها الحماية اللازمة التي مكنتهم من افتتاح معاهد ومدارس دينية رسمية وغير رسمية حتى في مربعات نائية كانت الى وقت قريب حكراً على مذاهب محددة ولقرون طويلة, وساعدهم النظام على الاستيلاء على آلاف المساجد على مستوى اليمن, وتعد المعاهد العلمية نموذجاً صارخاً لتدخل الدولة في الشأن الديني للمجتمع وانتصارها لأفكار ومذاهب وافدة عبر تخريجها عشرات الآلاف من المدرسين المنتمين فكرياً لتلك المدارس والمذاهب.
لست هنا في وارد الاعتراض على أي فكر جديد دخل أو سيدخل اليمن, سواء فكر سياسي او ديني, الاعتراض هو على تبني الدولة لذللك الفكر وتسخير إمكاناتها لتعميمه تواطئاً مع قوى خارجية أو انتصاراً لقوى داخلية تريد أن تصنع لها حيثيات جديدة على الأرض تمكنها من الاستمرار في الحكم.
اعتقد القائمون على النظام –بكل أجنحته بما فيهم الإخوان والوهابيين- أنه من السهل تغيير ذلك الواقع بواقع جديد, وغرتهم النتائج المتتالية للانتخابات النيابية والمحلية فاعتقدوا أنهم انجزوا المهمة, لكن النار كانت تستعر تحت الرماد بين مذاهب وتيارات وأفكار وافدة عمرها لا يتجاوز بضعة عقود, وتيارات ومذاهب عمرها قرون طويلة, ولأن النظام كان مع الوافدة فان ظاهر الأمر كان في صالحها, لكن الجذور والعمق التاريخي والمجتمعي كان في صالح الأخرى.
لم يقتصر ذلك التغيير الممنهج الذي تبناه النظام على منطقة دون غيرها بل شمل كل المناطق, لكن الإشكالية ظهرت أكثر في شمال الشمال بحكم الخلاف الجذري بين الأفكار الوافدة والأفكار المتجذرة, وبرزت المشكلة الى العلن في صورة تنظيم الشباب المؤمن في بداية التسعينات, وتسارعت الوتيرة بعد دخول حسين بدرالدين الحوثي على الخط مروراً بالحروب الست الى أن أصبحت حركة "أنصار الله" أو "الحوثيين" الأكثر فاعلية وتأثيراً على المشهد السياسي في شمال الشمال بعد أن غدت القوة الأبرز على الساحة هناك.
الأمر نفسه مُهيأ للتكرار في محافظات مثل تعز واب وغيرهما كمركز ثقل للشافعية التقليدية التي بدورها تعرضت لعملية تجريف متعمد منذ 3 عقود تقريباً لصالح المذاهب والتيارات الوافدة بدعم من السلطة, وسيحسم الصراع في نهايته لصالح الأكثر عمقاً وتجذراً في الذاكرة الجمعية للمنطقة اذا ظهر من يحاول احياء تلك المدرسة السنية العريقة والمعتدلة والمتجذرة في اليمن منذ قرون طويلة.
التغيير المذهبي أو الفكري قد تفرضه أنظمة سياسية, لكنها بحاجة الى استقرار في الحكم لمئة عام على الأقل لكي يتم القضاء على الواقع السابق تماماً, او يصبح معه هامشياً, وذلك ما لم يتح لنظام الحكم في اليمن خلال العقود القليلة الماضية, وهو ما مكن وسيمكن الحركات الاحيائية من استعادة السيطرة على المشهد مستغلة حنين أبناء تلك المناطق الى التعايش الذي كان سائداً عندهم قبل وصول الوافدين الجدد, ومستغلة ايضاً الأخطاء الجسيمة والمظالم التي ارتكبت من قبل النافذين الذين سعوا الى ذلك التحول, ومستغلة كذلك ضعف الولاء لتلك المذاهب او التيارات الوافدة لأن انتشارها كان مرتبط بإغراءات السلطة والمال ولم ينتج عن قناعات راسخة بعد بحث ومقارنة.
عمر الحركة الحوثية لا يتجاوز العشر السنوات الا بقليل, وخلال هذا العمر القصير جداً شنت عليها عشرات الحروب الداخلية وحرب إقليمية دولية, ست حروب منها رسمية خيضت باسم الدولة وبقية الحروب خيضت تحت عناوين متنوعة ما بين الدفاع عن القبائل مروراً بالدفاع عن الدماجيين وصولاً الى الدفاع عن الصحابة وأهل السنة ومؤخراً الدفاع عن الثورة والجمهورية وفك الحصار عن صنعاء, وفي الحرب الدولية شاركت السعودية رسمياً بجيشها الى جانب جيش النظام, كما شاركت الكثير من الدول الغربية في دعم السعودية, وقد اثبتت ذلك وثائق "ويكي ليكس" التي تبين من خلالها أن فرنسا وعبر اقمارها الصناعية كانت المسؤولة عن توفير احداثيات المواقع والتحركات الحوثية للطيران السعودي.
الى وقت قريب لم يكن للحوثيين مشروع سياسي لبناء دولة أو لإدارة البلد, فانطلاقة حسين الحوثي كانت أشبه بالحركات الفكرية الدعوية الإسلامية, وصاغ خطاب حركته –بحسب ما كتب في ملازمة- من منطلق التصحيح والعودة الى القاسم المشترك بين المسلمين وهو القرآن الكريم, كان واتباعه مجرد مجاميع مؤمنة بفكر معين يتعرضون لكافة أشكال الحروب والتنكيل والتشويه بهدف محوهم تماماً من الخارطة بل ومن الذاكرة, اختلق النظام في حروبه تلك كل أنواع الصراع القذرة, المناطقية والسلالية والمذهبية, وصور نفسه وكأنه يخوض معركة وطنية للدفاع عن الجمهورية.
فشل النظام في حروبه وتوسعت الحركة على الخارطة الجغرافية والديمغرافية وأصبحت خلال سنوات بسيطة رقماً صعباً ومكوناً يستقطب اليه كل المظلومين والمسحوقين والمستبعدين من قبل النظام.
انفجرت أحداث 2011م وأعلنت الحركة عن تواجدها العلني في صنعاء والكثير من المدن اليمنية بعد أن ظل اتباعها يخفون انتمائهم لها أو حتى شعورهم أنهم جزء منها, وتقاطر الآلاف الى صعدة ليتعرفوا على هذه الحركة التي نشأت في جبال مران.
استحوذ اخوان اليمن على حصة الأسد في الحكومة والمناصب العسكرية والأمنية بعد ثورة 2011م, وعادوا الى السلطة في التوقيت الخطأ, وبقي الحوثيون كمعارضة وأصبحوا كالإسفنجة تمتص كل ضحايا الإخوان قبل عودتهم الى السلطة وبعد عودتهم اليها, وشعر أغلب المواطنين وبالأخص في شمال الشمال أن الحوثيين هم المؤهلون وحدهم لمواجهة الإخوان المسلمين, وأن الأحزاب –بما فيها المؤتمر- غير قادرة على القيام بتلك المهمة وأصبحوا بين خيارين لا ثالث لهما, اما الحوثيين واما الإخوان, فاختارت الأغلبية الحوثيين لأنهم حركة معارضة فتية متحللة من ارث الفساد والظلم والاقصاء الذي مورس خلال العقود القليلة الماضية.
دخل الحوثيون مؤتمر الحوار وقدموا رؤاهم لحل القضايا المطروحة على المؤتمر, وكان الجميع ينتظر بفارغ الصبر رؤيتهم لبناء الدولة, على اعتبار أن تلك الرؤية ستكون بمثابة البرنامج السياسي للحركة الذي سيحدد مدى قبولها والتزامها بالعناوين العريضة ليمن ما بعد 62م.
جاءت رؤية أنصار الله "الحوثيين" صادمة للغالبية حتى لبعض المنتسبين اليها وللواقع الديني الذي انبثقت عنه, وتجاوزت الحركة في رؤيتها السياسية كل الأحزاب اليسارية اللبرالية والمدنية وتجرأت في التنظير لدولة مدنية لا دينية, على اعتبار أن الإسلام دين الشعب لا دين الدولة, وأن الدولة -أجهزة ومؤسسات- يجب أن تتعامل مع كل مواطنيها بمعايير موحدة بغض النظر عن الدين والجنس والمذهب والطبقة والمنطقة, وأن واجب الدولة حماية كل المواطنين وصون حريتهم في ممارسة عقائدهم, على أن لا تصطدم الدولة في تشريعاتها بالموروث الديني الذي تُجمع عليه الغالبية العظمى من أبناء الشعب وبنسبة تفوق ال99%.
تعرض الحوثيون بسبب رؤيتهم تلك لهجوم ثلاثي شنه عليهم تيار الإخوان والتيار الوهابي والتيار التقليدي في المدرسة الزيدية, وخاض الثلاثي ضدهم معركة تحاول تشويههم على اعتبار أنهم يقفون ضد الإسلام وأنهم تنازلوا عن الكثير من المبادئ الإسلامية في رؤيتهم لبناء الدولة, وفي الحقيقة أن الحوثيين قدموا رؤيتهم من فهم عميق للشريعة الإسلامية ومقاصدها, رؤية تنسجم مع التنوع الفكري والمذهبي الذي في اليمن.
والمفارقة أن حملات الإخوان ضد الحوثيين متناقضة, فتارة يتهمونهم بأنهم يسعون الى استعادة الإمامة وأنهم ضد الثورة والجمهورية, وبعدها بأيام يتهمونهم أنهم فرطوا في الإسلام وقبلوا بدولة علمانية تتنكر للإسلام وترفض اعتبار الدولة إسلامية.
وانجر بعض المثقفين الى ذلك المربع دون شعور, متهمين أنصار الله –كحركة سياسية- بانهم حركة طائفية مذهبية عنصرية, لم يجدوا ما يدين الحوثي في برنامجه السياسي المقدم للحوار في مختلف القضايا فأقحموا أنفسهم في مناقشة كتبهم الفقهية وخطبهم في المناسبات الدينية وفهمهم المذهبي للإسلام وقراءة نواياهم وتطلعاتهم للسلطة, وبدأوا محاسبتهم على ما لا ذنب لهم فيه, فلا ذنب لهم في مذهبهم وفهمهم للإسلام الذي ورثوه عن علمائهم ولا في منطقتهم التي ولدوا فيها, ولا في طبقاتهم الاجتماعية التي انبثقوا عنها وورثوها عن أجدادهم.
أي حركة سياسية لا بد أن تكون لها هوية, وهويتها بالتأكيد ستتأثر بالموروث الديني والاجتماعي للمنطقة التي نشأت فيها, والمطلوب منها للولوج الى العملية السياسية والشراكة في بناء الدولة هو إقرار العقد الاجتماعي –الدستور- بكل ما يحتويه عن بناء الدولة شكلاً ومضموناً, والقبول بأدوات العمل والتنافس السياسي الحديثة الممثلة في الديمقراطية وصناديق الاقتراع, وليس مطلوباً منها أبداً التخلي عن موروث بعض منتسبيها الديني والاجتماعي بغض النظر عن مضمونه, ولا يعني ذلك أن يظل هذا الموروث مقدساً بعيداً عن النقد والتصحيح, لكن تلك مهمة الباحثين في ذلك المجال, وليست مهمة الكتاب السياسيين الذين لا ينطلقوا في محاكمة الحركة من خلال برنامجها السياسي المقدم في مؤتمر الحوار لأنهم لم يجدوا فيه ما يُنتقد, ولم يتمكنوا من محاكمة الحركة سياسياً بسبب اخطائها في الحكم وتناقضها مع برنامجها السياسي لأنها لم تصل بعد الى الحكم أو حتى المشاركة فيه لكي تختبر عملياً, ولذلك نصبوا أنفسهم باحثين في الحركات الدينية والموروث الاجتماعي وبدأوا في محاكمة الحركة عن قضايا موروثة لا ذنب لها فيها.
أنصار الله –في جانبهم السياسي- يسعون لتأسيس تيار سياسي عريض ينطلق من رؤاهم التي قدموها في مؤتمر الحوار وبالأخص رؤيتهم لبناء الدولة وللحقوق والحريات العامة وحقوق المرأة, تيار يرفض الوصاية الدولية أو الإقليمية, يستوعب هذا التيار كل من يؤمن بتلك الرؤى بغض النظر عن منطقته ومذهبه.