إيتيان دو لابويسيه: هكذا يُخلق الاستبداد
إحدى أهمّ الرسائل الفلسفية السياسية في القرن السادس عشر، انتقلت أخيراً إلى المكتبة العربية تحت عنوان «مقالة في العبودية المختارة» (مجلة «الدوحة» ـــ ترجمة: مصطفى صفوان). هذه الخطوة تبدو مهمة اليوم وسط موجات الارتداد على الأفكار التنويرية في «زمن الانتفاضات»
ربما كانت الرسائل الفلسفيّة هي أعظم النتاجات الفكريّة التي أنتجتها القرون الممتدة من السادس عشر إلى الثامن عشر. كتيّبات ذات صفحات قليلة وقيمة عالية خطت بالفلسفة السياسية إلى مستويات كبيرة، كان لها الأثر الأبرز في تشكيل «العقليّة» الأوروبيّة السياسيّة بشكل خاص، ومنها إلى معظم الجدالات السياسيّة والفكريّة في العالم. وغنيّ عن القول أنّ عدداً كبيراً من تلك الرسائل لم يُترجَم بعد إلى العربيّة، وأما ما عُرِّب، فقد بقي أسير صفحاته لأسباب عديدة ليس أقلّها تدنّي مستوى الترجمة. ولهذا، تبدو الترجمة العربية التي صدرت أخيراً لكتاب إيتيان دو لابويسيه (1530_1563) «مقالة في العبوديّة المختارة» (كتاب مجلة «الدوحة»_ ترجمة: مصطفى صفوان) مناسبة لإعادة النقاش بشأن أهمية ترجمة تلك الرسائل، وإعادة تعريب ما سبقت ترجمته منها.
تنطلق المقالة من مسألة جوهريّة «ما سرّ رضوخ الناس للاستبداد؟». وعبر صفحات تلك المقالة التي لا تتجاوز 35 صفحة، يخلص دو لابويسيه إلى أمر شديد الأهمية يتلخّص في أنّ أهم أسباب بقاء الاستبداد هو العبودية الطوعية التي يمارسها الناس، وبأنّ الخلاص من الاستبداد يتمثّل في إعادة ضبط الأمور، لا عبر الصدام المباشر مع الاستبداد، بل عبر انتزاع شرعيّته، وذلك بالكف عن طاعته؛ إذ إنّ الطاغية «مهزوم خلقة. ويكفي ألا يستكين البلد لاستعباده. ولا يحتاج الأمر إلى انتزاع شيء منه، بل يكفي الامتناع عن عطائه».
وبذلك تتزعزع أسباب شرعيّة حكمه «فترونه كتمثال هائل سُحبت قاعدته فهوى على الأرض بقوة وزنه وحدها، وانكسر». وهنا، يبدو دو لابويسيه أحد أهم المناصرين المبكّرين لمبدأ «العصيان المدنيّ». وليس مستغرباً حين نعلم بأنه أصبح في النصف الثاني من القرن العشرين، بشكل خاص، مرجعاً لكثير من الكتّاب الأوروبيين الأناركيّين، وإن كان في ذلك شيء من تحريف لمقولاته الأصليّة التي اكتفت بانتقاد المستبد، ولم تقترب من انتقاد آليات السلطة بحدّ ذاتها.
ينطلق دو لابويسيه من حقيقة بديهيّة مفادها أن الحرية حق طبيعي، وأن الناس يولدون أحراراً، بل هم مفطورون على الدفاع عن حريتهم تلك. وما يحدث لاحقاً أن الناس يتخلّون عن حريتهم بشكل لا يمكن تصديقه، فيبدون لمن يراهم بأنهم «لم يخسروا حريّتهم، بل كسبوا عبوديتهم». ولذا يؤكّد أن «العادة» هي أولى أسباب هذه العبودية المختارة، إذ إنّ البشر «لا يُقبلون على الخدمة في أول الأمر إلا جبراً وخضوعاً للقوة». لكن الأجيال التالية «يأتون طواعية ما أتاه السابقون اضطراراً». ثم يشير دو لابويسيه إلى أنّ أصناف الطغاة ثلاثة: الذين يحكمون «عن طريق انتخاب الشعب، أو قوة السلاح، أو الوراثة المحصورة في سلالتهم». هكذا، يحقّقون صفاء أيامهم عبر إخضاع الناس بوسائل عدة، لا تبدو غريبة اليوم حتى بعد مرور قرون كاملة. تتنوّع هذه الوسائل بين إغوائهم بالملذات والعروض المسرحية والسيرك (ما يقابله اليوم التلفزيون كأعظم جهاز تخدير مركزيّ للإنسان)، أو اللجوء إلى الدين بل واستعارة مجد إلهيّ ما (أو نسب ممتد إلى أنبياء أو أبطال، كما يشير المترجم)، أو اللجوء إلى الخداع والبروباغندا عبر ادّعاء «خير الجماعة والأمن العام» (لا تبدو عبارة «تمثيل الشعب» المنتشرة في جميع الدساتير الحديثة غريبة عن هذا السياق)، أو _ أخيراً _ عبر اللجوء إلى جماعة صغيرة من «المستشارين» المثقّفين الفاسدين الذين يتحكّمون بجماعة أكبر من الناس.
هؤلاء المثقفون الفاسدون يتحكّمون بـ«القاعدة الشعبية»، بحيث يكون الولاء للمستبد بصمت، خصوصاً بعد إفراغ الساحة من المثقفين المتنوّرين الذين سيكونون الأساس الفعليّ لخلق «معارضة متنوّرة» تشرّح آلية الاستبداد، وتبيّن آليات الخلاص منه. وهنا تصبح الحاجة ماسة إلى دراسة جادة لأهمية دور «مثقّفي السلطة» في تكريس الاستبداد، إذ هم يمثّلون «القوة الناعمة» لأي نظام استبداديّ بعيداً عن وجهه الآخر العسكري
الأمنيّ.
أشار بعض المؤرّخين والمفكّرين إلى أن «مقالة في العبودية المختارة» (كُتبت عام 1552 أو 1553 في أدق الروايات، ولم تُنشر إلا بعد وفاة كاتبها) هي بمثابة رد غير مباشر على كتاب «الأمير» (1532) لمكيافيللي (1469_1527). إذ اتفق الكاتبان، بدرجة ما، على أنّ الطاعة هي أهم وسائل تثبيت الاستبداد، ولكنّ مكيافيللي عمل على شرح آليات «اكتساب الطاعة»، فيما عمل دو لابويسيه على آليات نزعها. وقد أثارت هذه المقالة منذ نشرها وترجماتها المتعددة جدالات كبيرة، ولا سيما في حقل «سياسة اللاعنف».
أشار المنظّر السياسي مَري راثبارد (قدّم للترجمة الإنكليزية للمقالة) بأن الكاتب الروسي ليو تولستوي استند إلى كثير من آراء دو لابويسيه، حين أشار تولستوي إلى أن «الطريقة الأبسط والأسهل أمام العمال لتحرير أنفسهم هي عبر الامتناع عن المشاركة في العنف». ويؤكّد راثبارد أنّ «رسالة إلى هندوسي» لتولستوي المستندة إلى الفكرة ذاتها أدت دوراً جوهرياً في تبنّي غاندي لسياسة اللاعنف التي نظّر لها دو لابويسيه. وهنا تجدر الإشارة إلى أن النسخة الإنكليزية من المقالة (بترجمتها ومقدّمتها) أفضل بدرجات من نسختها العربية، إذ لم تكن مقدمة محمد الرميحي أكثر من شرح مبسط لأفكار المقالة ولمفهوم الحرية عموماً. أما الجهد الكبير للمترجم في الحواشي المهمة التي رسم فيها الخلفية التاريخية والفكرية في القرن السادس عشر، فلم يسعفه في الترجمة، حيث مالت لغته العربية إلى التعقيد أكثر من الترجمة الإنكليزية.
ورغم ارتداد دو لابويسيه على أفكاره في هذه المقالة، حين أصبح داعماً للبلاط الفرنسي وسياساته خاصة في عدائه لسياسة التسامح الديني، ودعوته إلى تكريس الكاثوليكية وملاحقة البروتستانت، إلا أنّ هذا الارتداد بحد ذاته يسهم في تفعيل أفكار المقالة وإن لم يكن مخلصاً هو لها. وكما كانت المقالة عابرة للقرون الطويلة لتصل إلينا الآن، كذلك هي فكرة الارتداد عن الأفكار التنويرية التي نشهدها اليوم في «زمن الانتفاضات». ملاحظة تستحق دراسات نقدية جادة لتشريح آليات الاستبداد بكل أنماطه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والأهم الثقافية.