الإستئثار بالراية
هو داء يصيب الأمم والشعوب قديما وحديثاً وأينما حل فثم الأسن والركود ،صاحبه لا يعترف بقدرات الأخرين لأنه طبع عليه طابع الأنا وحب الذات يخيل الية أنه في الناس
الأذكى وبالمهمات المتميز وبالحنكة الأرقى ولولا أنه موجود لسقطت الراية وانهدم سطح الدعوة وبان عوار الأمة.
ويقابل هذا الداء دواء نافع لمن يبغي الشفاء وهو بكل بساطة القيادة الزاهدة لأنها تمثل السر الخفي وراء الاستجابة الفطرية لدى المتبوعين فالقيادة الزاهدة والاستجابة الفطرية هما الارتباط الصحيح الذي يبارك الله فيه ليكون بداية البناء وأساسه، وهما المقياس الذي يقبل به أي ارتباط أو يرفض ومن خلالهما نستطيع تحديد مدى قدرت الارتباط على الاستمرار والانتشار.
وبين هذا وذاك ندلف سوياً الى بوابة التاريخ علنا نستفيد من قراءته ونأخذ الدروس والعبر من سير الغابرين فإذا وقعت بين يديك قصة أصحاب الأخدود وطالعتك مشاهد البؤس والشقاء والقهر والقتل والتعذيب وكل البلاء الناتج من تجبر وطاغيان ملك نجران، فاستمر بالقراءة لعلك تتعلم كيفية حدوث سنة التغيير في الشعوب والمجتمعات، وستصيبك الدهشة عندما تجد أن من أحدث التغيير هو غلام يافع متصف بالإيمان ومما نعرفه عنه أنه كان معجزة زمانه، وفي الحديث عنه سلوة وتسلية للمؤمنين، ولابد أولاً أن ندرك أنه غلام عادي لا يظهر عليه شيء من خوارق العادات غير أن بصمة قوية أثرت في حياته وساهمت في صلابة إيمانه ورباطة جأشه أمام عتاولت الظلم والطغيان، كان صاحب هذه البصمة هو معلمه الراهب حينما قال له ذات يوم (أي بني أنت اليوم أفضل مني).
لم يكن الموقف الذي وقفه الراهب موقفاً عادياً عندما قال للغلام هذا الكلام ولكنه موقف فاصل في حياته وفي حياة كل داعية.
فقد تخفي الدعوة في الإنسان الذي يمارسها حباً خفياً للتميز باعتبار أن هذه الممارسة صورة من صور تميزه على الناس.
ولكن هذه العورة النفسية القبيحة تنكشف حتماً إذا واجه الإنسان موقفاً يشعر فيه أن هناك من هو أفضل منه في فهم الدعوة وأقدر على تحقيق مصلحتها. ولكن الراهب لم يكن من هذا النوع بل كان تقياً نقياً (فقال لـه: أي بني أنت اليوم أفضل مني) كلمات كلها إخلاص وتجرد.
فهذا الراهب المعلم كان أصيلاً إذ أخبر الغلام أنه قد أصبح أفضل منه بلا حرج ، ومن أين سيأتيه الحرج وقد خلصت نفسه لله تبارك وتعالى؟ فهو لم يكن يعلم ليقال عنه عالم، ولم يكن يدعو ليكون على رأس أتباع؛ ولهذا يفتح الطريق لمن يظن أنه يملك خدمة الدعوة أكثر منه؛ (أنت اليوم أفضل مني).
ما أحوجنا إليها اليوم لاسيما وقد رأينا ولازلنا نرى اما حرصا على القيادة من كثير من أصحاب الدعوات، لا يعترفون به لأي فرد كان مهما فاقهم من الفضل، فضلا أن يتنازلون عنه لهم.
نحن اليوم لا نتعجب عندما نجد الاستئثار بالراية متجذراً في القادة المصابين بهوس السلطة وفي الحكام المتخبطين في متاهات الجهل غير أننا نستقبحه عندما يظهر جلياً عند من ينتسبون للدعوة الى الله ويزعمون أنهم من قياداتها؛ لذا لا يستغرب إذا رأيت تنامياً وتزايدا للفرقة وسرعة في الإنبجاس في صفوف الجماعات سيما الإسلامية والدعوية مع وحدة الهدف ومصدر التلقي وصحة المعتقد لأن هناك من يؤسس لمبدأ التشظي، وإذا رأيتهم يقحمون أنفسهم في كل فن ويحشرونها في كل تخصص فلا تستغرب أيضاً لأنهم لم يؤمنوا بالفكرة ولم يوطنوا أنفسهم على التجرد من حظوظ النفس ولو أمنوا بها لما سعوا جاهدين للحيلولة بينها وبين القادرين على نشرها محافظين بذلك على بقاء الراية معهم .
قد يصمت الإنسان على مضض عند تفشي هذا الداء هروبا من أصابع الاتهام التي ربما تشير اليه بمحاولة أخذ الراية أو البحث عن مكان، بيد أن الأمر أكبر من ذلك بكثير فالخالق جل وعلى قد جعل لهذا الكون سنن لا تتبدل ولا تتغير من ذلك سنة التغيير و النصر وهما لا يأتيان حتى تستوفى الشروط المطلوبة وتنتفي جميع الموانع عندها يُمكن الله للمؤمنين، ولعل من أعظم ما يعيق عجلة التغيير وجود مثل هذه الشخصيات التي لا تعترف بقدر وقدرات الآخرين .
ولعل الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم تنبه لخطر هذا الداء فأراد أن يعلم أمته من بعده كيف يتجاوزه مرض الاستئثار بالراية عملياً وليس تنظيراً فقط فقد (أصدر القائد الحكيم معلم البشرية محمد صلى الله عليه وسلم قراراً قبل وفاته ، فحواه تعيين أسامة بن زيد البالغ من العمر 18 عام قائداً للجيش الذي سيخرج الى الشام لمقاتلة الروم ) وأريد أن نتوقف عند هذا التعيين علنا ندرك كم هي عميقة في نفس القائد اللبيب والنبي الأكرم هذه المعاني الراقية التي تؤسس للقيادة والريادة وصناعة المجد للآخرين يولى أسامة بن زيد الذي لم يبلغ العشرين مع وجود سيدنا ابو بكر الصديق وسيدنا عمر بن الخطاب وسيدنا عثمان بن عفان وسيدنا علي بن أبي طالب وكبار الصحابة الذين ربما تداخلت السنون في أجوافهم وخبروا الحرب بكرها وفرها والكثير منهم هو أهل لهذه المهمة ثم ينطلق جيش أسامة ليطأ بخيله وبجيشه تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين خرج أسامة و معه المهاجرون الأولون وكبار الصحابة ليرجعوا بنصر مؤزر وفتح عظيم .
وحسب من ينشدون التغيير قول ربهم ( لكم في رسول الله أسوة حسنة )فهو الأقدر على إنزال الناس منازلهم وفي الآخير يقول سبحانه وتعالى ( وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ).