وأخيراً تحقّق حُلمُنا الجزء الثاني والأخير
ثمة أسئلة كثيرة تراودني ،وهناك علامات استفهام منتشرة في كل مكان ،الأجواء تغيرت إلى أحسن حال ،حتى أرضية المنزل باتت كالزجاج تبرق لمعاناً لنظافتها وجمال رونقها .
خرجت على الفور من المطبخ متجهاً نحو باب المنزل الأمامي ، ليس لدي وقت كافي لتغيير ملابس النوم التي أرتديها ،فتحت الباب بسرعة مدهشة فغمرتني إحدى نفحات نسيم الصباح التي تنثر هوائها العليل المحمل بأزكى الروائح الندية ،أول ما وقعت عليه عيناي وأنا خارج من المنزل مكان القمامة الذي كان في جانب الشارع المجاور لبيتي ،المكان نظيف تماماً وكأنه صالة فندق موفمبيك ؛لا أثر للقمامة ، لا أرى قططاً ولا كلاباً ولا حتى غراباً يحوم على المكان !
أين أختفت القمامة فجأة ؟ وهي بالأمس كانت مكومة كجبال تهامة ، لا جواب بعد لما يحدث .
أكملت طريقي إلى حيث تتلاطم الأمواج البشرية فرحاً وابتهاجاً ،وأثناء مشيي مررت بصندوق قمامة آخر ،المكان من حوله نظيف جداً،والروائح الطيبة تفوح من كل مكان ، نظرت إلى داخل الصندوق وإذا به فارغ من القمامة لا يوجد به سوى ثلاثة أشخاص كانوا في وضعية مزرية يندى لها الجبين ؛ أحدهم كان ممدداً على بطنه داخل الصندوق ويصرخ بأعلى صوته ،ويضرب بيديه التي تمطر دماً على على جانب الصندوق ،والثاني كان مخفياً رأسه بين رجليه في حيرة وندامة كبيرة، لا ترى منه سوى حركة واحدة بعد كل 5 ثواني تهز كيانه وجسمه هزاً ،وكأنه يصارع سكرات الموت .
والآخر استقبل بجسمه جانب الصندوق ضارباً بوجهه ورأسه وبكل ما أوتي من قوة حافة الصندوق الزرقاء التي تغيرت إلى اللون الأحمر نتيجة للدماء المتطايرة هنا وهناك !
أمراٌ غريباً حقاً ! من هؤلاءِ الجماعة ؟ ولماذا يفعلون بأنفسهم هكذا ؟ منظراً مخيف ، لم استطيع أن أنبت سوى بسؤال واحد فقط ، ماذا جرى ؟ فنظروا إلي بنظرة حزينة وكأنها نظرتهم الأخيرة في هذه الدنيا ، فقالوا بصوت واحد أخرجوه بقوة من أعماق أنفاسهم : رحلوا الجماعة وتركونا !!
ثم عادوا بعد ذلك إلى وضعهم المزري وأنا في حيرة من أمري ، من الجماعة ؟ متى رحلوا ؟ ولماذا رحلوا ؟ وكيف رحلوا ؟ أسئلة كثيرة تطرح نفسها بقوة أمام هذا المشهد الغريب .
كم هو غريباً ن أرى هؤلاءِ الثلاثة في صندوق القمامة يعذبون أنفسهم على أمراً اقترفوه لا أعلم بعد ما هو ، وتلكم الجموع البشرية تحتفي في أسعد لحظاتها على ظهر هذه الدنيا المريرة ! - سبحان الله - كم هو الفراق حقاً بين الفريقين .
مضيت في سبيلي إلى حيث تتواجد الجموع البشرية وكلي غرابة على غرابة ، مررت بحديقة عامة كانت قبل الصباح تعج باللصوص الذين حولها إلى وكراً لهم ، وكانت بالأمس القريب قلما ما تجد فيها زهرة حية ،فقد كان الجفاف يصارعها ؛ لم يكن بها قبل الآن شيء يدل على أنها حديقة ومنتزه عام سوى لائحة خشبية قديمة كتب عليها تعريف بسيط يحمل اسم هذه الحديقة . لما رأيتها هذه المرة حسبتها قطعة نزلت من الجنة ، كان المنظر لا يوصف على الإطلاق ،الزهور الجميلة ترقص في سمائها بألوان مختلفة تنشر روائحها العطرة التي أفعمت المكان ،وأشجار الزيتون والرمان والتفاح تعانق بعضها بعضاً وكأنها خرجت للتو من سجن الإهمال والاندثار ! أرضية الحديقة مغطاة كلياً بالعشب الأخضر الزاهي ، بعدما كانت مغطاة قبل ذلك بالقمامة .
في وسط هذه الغرابة مازالت أصوات التكبيرات تدوي في المكان ،وأصوات الرصاص تقبل بعضها بعضاً في الهواء ،والألعاب النارية التي تطلق باستمرار دون توقف تصفق ابتهاجاً كما يصفق رجال البدو في الحفة الحضرمية .
اقتربت من الأمواج البشرية وكان أول من استقبلني عجوزاً طاعنة في السن تبلغ من العمر 90 عاماً تحمل في يدها عكازه لمساعدتها على المشي ، فنادتني قائلة : إي بُنَيَّ .. مبارك عليك .. بشراك يا ولدي .. لقد استقلت الجنوبُ أًخيراً ، وخرج المحتل اليمني الساعة الخامسة فجراً ..!
لم أصدق نفسي .. شعرت بالأرض تزلزل من تحت قدميّ.. أحسست بصاعقة صادمة حطّت على رأسي ..أرى نجوم الهجر في كبد السماء ..صرت أتمعن في الشمس هل ستهوي على رأسي ؟
لم تكن كلمات العجوز البسيطة عبارات عادية صدرت عن لحظة فرح ونشوة ، بل كانت بالنسبة لي قنابل عنقودية تتفجر فوق رأسي ومن حولي ! لم أزل واقفاً، لم أصدر أيّةُ حركة خارجية ، فقد تجمد جسمي بعد أن جفّت الدماء في عروقي ، وصارت مخيلتي تشهدُ حرباً عالمية ثالثة ،أطرافها اثنان صدق ..ولا تصدق .
عيناي لا تزال مفتوحة دون أن يرتد إلي طرفي ، لا شيء يتحرك من جسمي غير قلبي الذي بدأ ينبض بدقات أشبه بطبول الحرب حينما تقرع في العصور الغابرة .
ماذا أفعل ؟ هل أركض وأقفز كالمجنون مثل الأطفال ؟ أم أزغرد مثل النساء ؟ أم أبكي وأعانق الهواء كالرجال ؟
لم أشعر بنفسي إلا وأنا ساجداً على الأرض لله - رب العالمين - شاكراً إياه على نعمته ورحمته وكرمه بنا ،كنت أبكي أشد من الأطفال ، لم أصدق أنّ هذا قد حدث فعلاً ! لم أتفوه بأية كلمة بعد سوى هدير البكاء الذي يصدر مني بشكل غير إرادي والذي استحوذ على كياني وتعبيراتي .
جلست ساجداً ساعة كاملة ، وبعد أن استوعبت المفاجأة قليلاً رحت أخوض في الذكريات المؤلمة وأيام الخوالي التي ذقنا خلالها أبشع العذاب والتنكيل والقتل والتشريد .
ما زلت لا أصدق أنّ معاناتنا قد انتهت ، وأننا أصبحنا أحرار في أرضنا كرماء بين أهلينا ..
تنفست بشكل لا يتصور وكأن جبل ضبضب أًزيح من على صدري ..انضممت إلى الجماهير لأصبح نقطة أخرى في بحراً يموج طرباً وفرحاً بالنصر العظيم .
سألت صديقي صالح ، من يا ترى أؤلئك الأشخاص الثلاثة الذين رأيتهم في صندوق القمامة وأنا في طريقي إلى هنا ؟ فأجاب ضاحكاً : هم آخر بقايا حزب الإصلاح وحزب المؤتمر وسلطة صنعاء من الجنوبيين ؛ فمضى قائلاً : الذي رأيته ممدداً على بطنه ويصرخ هو أحد قادة حزب الإصلاح ،والثاني الذي كان يضرب برأسه ووجهه جانب الصندوق هو أحد قادة حزب المؤتمر ، والأخير الذي كان يخفي رأسه بين رجليه هو أحد قادة نظام الاحتلال من أبناء الجنوب .
تأملت في حالهم كيف أضحوا بعد زوال أسيادهم الطغاة ،فوجدتهم في أسوا حال قد يصيب إنسان ؛ يا ترى ماذا سيفعلون الآن ؟ وكيف سيعيشون ؟ فقاطع أفكاري صالح قائلاً : شعب الجنوب رحيم وكريم ولن يمسهم بأي أذى إطلاقاً طالما لم يَثبُت تورطهم بقضايا جنائية .
هؤلاءِ أخواننا وإن كانوا بالأمس يحتموا ويستقووا علينا بالمحتل ، فنحن اليوم سنكون أكرم منهم فلن نقوم بقتلهم أو طردهم أو سجنهم ، فالعفو عند المقدرة من شيم الكرام ،وقد عفا عنهم شعب الجنوب ، يكفيهم ما أصابهم من حسرة وندامة وخزي ،ويكفيهم ما شعروا به من ألم وقهر وذنب سيبقى معهم إلى نهاية حياتهم .
لله دركم أيها الجنوبيون .. أكرم بكم من شعباً يقابل الإساءة بالإحسان ..صمدتم فصبرتم فانتصرتم..
كاتب وصاحب القصة...عبدالجبار عوض الجريري