الحنين إلى الماضي
يعصف بي الحنين.. تتناوحني الأشواق..تضرب أعماق أعماقي الذكريات..كم أشتاق لذلك الماضي..كم أحن لتلك الأيام..كم أهفوا لتلك الخوالي.. يشدني الماضي نحوه.. كم أنشد طفولتي وأحضان طهري ونقائي.. كم أتمنى أن أعود ذلك الساذج الذي لايعي الأمور ولا يدرك ماتخفي في باطنها وما تحمله بين جنباتها وما تضمره الأنفس وما تعج به الأفئدة والقلوب..
أحن لأن أرتمي في تلك التربة أمام منزلي أتمرق فيها والعب بها (أحث) منها على أخواني وأصنع منها مجسمات تشبه طفولتي وبراءتي وتعانق أحلامي حينما أوهم نفسي أنني قد صنعت هرما وشيء غريب جديد لم تعهده طفولتي أو تصل إليه أفكاري المحدودة التي لم تتعد يوما النوم في احضان أمي ومداعبة العابي التي أتحصل عليها من الغير أو أجدها مرمية في أكوام القمامات أو في الطرقات وأحافظ عليها دهرا..
كم أهفوا لخيوط الشمس الدافئة التي تتسلل من نوافذ منزلي وأصوات العصافير التي تكسر صمت قريتي وأنسام الهواء الباردة التي تلفحني وأنا في طريقي تسابقني أغنامي باحثة عن ما تجود به الطبيعية لتشبع نهم جوعها الذي لا ينتهي..
كم يستهويني منظر المروج وهي تتمايل مع الرياح يمنة ويسرة وتعانق بعضها بعض وتعزف على أغصانها أجمل السيمفونيات,وتتراقص طربا على أصوات (الرعاع) الذين يغازلون أغنامهم ويخاطبونها بلغة تفهما فتنصاع وتستجيب لأوامرهم دون أن تحيد أو تشذ..
أحن لذلك الغروب حينما ترتسم حمرته في البعيد وتعلن الشمس عن نهاية يومها,ويسدل الليل ستاره فيعم الصمت والسكون (قريتي) ويعم الهدوء كل شيء إلا من أصوات المآذن التي يتعالى فيها ذكر الرحمن فتبدد شيء من ذلك الصمت لدقائق ثم يحكم الليل قبضته فيبتلع (قريتي) وتختفي بين تلابيبه رغم محاولة (ألفوانيس) شق دياجير الليل ومجابهة سواده المخيف, فتستكين الأرواح وتهج الأجساد وتغمض العيون وتقط في نوم عميق منذ ساعات الليل الأولى..
أحن لذلك الصفاء في الذهن والنقاء في السريرة والبراءة في الأقوال والأفعال والمعاملات دون قيد أو شرط أو تكلف أو تصنع أو مداهنة أو منافقة أو (مغالطة) أو خداع..أحن لتلك البساطة في الحياة ومتطلباتها ويومياتها وتعاملاتها بين البشر بعيدا عن (تكنلوجيا) الضياع والانحلال,بعيدا عن الرقي والتطور الذي أتى على الأخلاق والمبادئ وحصد في طريقه الأرواح والأعراض..
أحن للماضي المنقح والخالي تمام من ضوضاء المدن وزحام البشر وعبثية التعامل ودموية الحاضر..أحن لتلك الدور المتهالكة التي تحتوينا في زمهرير الصيف وصقيع الشتاء وحبات المطر المتساقط التي تخترق (أسطح) منازلنا الترابية ونوافذها الخشبية التي تعوي خلفها الرياح وتتسلل من فتحاتها أشعة الشمس ..