بعض أسرار الصراع السعودي القطري
أسئلة كثيرة تدور في عقول الناس وتشغل بالهم: لماذا جاءت نتائج الربيع العربي، بصرف النظر عن محتواه، لمصلحة قوى متخلفة أخرِجت من حركة التاريخ منذ عقود؟
لماذا تلعب دولة متخلفة كالمملكة العربية السعودية دوراً أساسياً في المنطقة، رغم تعفنها كنظام سياسي اجتماعي؟ من منح دولة ضئيلة كقطر هذا الدور الحاسم في القضايا القومية؟ من ألهم الإمارات العربية، الدولة المسالمة الصغيرة والضعيفة، فكرة التدخل الحربي في سماوات بعيدة؟ ما سر الغزل السعودي الإسرائيلي؟ ما دور قوى سياسية تبدو مدنيّة ظاهريّاً، مثل تيار المستقبل في لبنان، في المعركة العسكرية الإقليميّة، وما المطلوب منه لبنانياً في الجانب الميداني تحديداً؟
ما دور مجموعات «القاعدة» والدولة الإسلامية، ومئات التسميات الوهمية والحقيقية، في صناعة معادلات الواقع؟ لماذا يفقد اليسار العربي دوره التاريخي؟ ولماذا أضحى الشعار الديني راية للتجميع والتحشيد يميناً ويساراً على حد سواء؟
هذه الأسئلة الكبيرة ربما تجد أجوبتها في أمثلة وحقائق صغيرة تجري أمامنا، لكننا نهملها ولا نمنحها حقها من التقدير، فتضيع من حساباتنا في فوضى الانشغال بالأسئلة الكبيرة المحيرة والعصيّة على الحل. هذا المقال محاولة للبحث في التفاصيل الصغيرة والمهملة.
حرب المعابر
يعرف الجميع أنّ التناحر السعودي القطري قديم، وقد استفحل أخيراً بسبب تعاظم الدور القطري في رسم السياسة إقليميّاً، وعربيّاً تحديداً. لكنّ الأهداف المشتركة في معركة سوريا، والقوى الدولية الداعمة المشتركة، جمّدت ظهور هذا الخلاف ومنعت تحوله صداماً علنيّاً. سببب خفي، مهمل، كان وراء تصاعد الخلاف المكتوم داخلياً، وتفاقمه، وجعله يطفو على السطح. إنه سبب فنيّ خالص، لا يريد أحد التوقف عنده. لكن تسلسل الأحداث يجبرنا على الوقوف عند هذه النقطة المثيرة المُتجاهلة. لقد شاعت في الإعلام أخيراً أخبار تتحدث عن المعابر، التركية خاصة، وقبلها العراقية، ودورها في صراع المعارضة الداخلي، ثم أثرها في مواقف تركيا والغرب. وفي النهاية استقر الحديث عن المعابر باعتبارها «ممراً» للتسليح والتمويل. ثمّ توقف الأمر أخيراً عند المحطة الحقيقية: من يدفع ومن يقبض؟ هذا الافتضاح المتسلسل والتدريجي ساير مسايرة تامة حلقات الصراع السياسي والعسكري في سوريا، بدءاً من الشعارات الإصلاحية «سلمية سلمية»، وصولاً إلى الانتصارات العسكرية الميدانية الكبرى للمسلحين، ثم نزولاً إلى انحسار الرقعة العسكرية لما يعرف بالمعارضة، انتهاءً بالانقسام الداخلي في «المعارضة» العسكرية، وخروج «الجيش الحر» من المعادلة الأساسية، وسيطرة القوى التكفيرية على الجبهة العسكرية. لماذا نشأ هذا التزامن، صعوداً ونزولاً، بين الصراع على المعابر وتدهور الوضع القتالي لجبهة أعداء النظام السوري؟ ولماذا حدث مثل هذا الأمر على الجبهة الكردية أيضاً؟
في هذه الحقيقة الغائبة عن أذهان الناس يكمن الجواب عن أخطر الأسئلة.
يقوم النهج القطري في إدارة المعركة ضد النظام السوري على نموذج أميركي جُرّب في أميركا اللاتينية من قبل نغروبونتي، وقبلها إلى حد معين في فيتنام، ثم أعيد تطويره على يد نغروبونتي مجدداً في العراق. إنه نهج خصخصة الحرب، من طريق صناعة فصائل مقاتلة تحت الطلب. وقد ترافق مع الخصخصة في بناء الجماعات المقاتلة غير النظامية، إعادة هيكلة التجحفل العسكري الدولي للجيوش النظامية أيضاً، الذي أضحى الأسلوب المميز لفنّ إدارة الحروب الأميركية العالمية الحديثة. لقد أسهمت عشرات الدول المشاركة في الحرب على العراق مثلاً في تدعيم التجحفل العسكري الدولي ببعض ما تملكه، حتى لو كان في هيئة غواصات سويدية غير مرئية تجوب أعماق الخليج "الفارسي"، أو في هيئة جماعات تبشيرية كنائسيّة شبه علنية تجوب القرى النائية في شمال العراق، أو بمواقف وتصريحات سياسية إعلامية مخططة مركزياً، يتولاها علناً وزير خارجية دولة محايدة شكلاً كالسويد، تكون بمثابة رصاصات تنوير، لإضاءة سماء جبهة عسكرية جديدة يتقرر فتحها: العراق، يوغسلافيا، سوريا، السودان. اليابان وألمانيا، الممنوعتان من المشاركة العسكرية خارج حدودهما، بقرار تاريخي دولي أعقب الحرب العالمية الثانية، تمّ جلبهما عسكرياً إلى العراق، ولكن تحت تسمية سلاح المهندسين أو الإشارة، غير الفتاك طبعاً! ولم يكن التجحفل الدولي محصوراً في الهيكلة الفنية للأسلحة المشاركة، وفي وسائل إدارة المعارك، بل تعداه الى بنية الجيش الأميركي نفسه، والى طابع التنظيم الهيكلي للجيش، الذي احتفظ بدرجة رئيسية بالقوات القتالية، وتخلى عن الزوائد الميدانية لمصلحة الشركات الخاصة التي تولت مهمات الاستطلاع والرصد والتموين والإمداد والنقل والتجسس والأعمال القتالية الضرورية الخاطفة والمحدودة، وإدارة السجون، ونقل السلاح والاتصال بقوى رديفة محليّة. أما السبيل الثاني فهو استخدام قوات خاصة تحمل تسميات متنوعة، بحسب طبيعة الأرض والثقافة: تحت غطاء المخدرات ورجال العصابات في أميركا اللاتينية، وتحت غطاء يجمع قيادات عسكرية مدعومة قبلياً في أفريقيا، وتحت شعارات دينية في المناطق الإسلامية. ثالثاً: تحفيز النظم التي تساير، طوعاً أو بالإكراه، تنفيذ المشروع الحربي العالمي إقليمياً وقومياً أو محلياً، كقطر والسعودية والأردن وتركيا. وربما يكون أعظم نجاح قدري تحقق في لبنان هو عدم القبول بقيام حكومة تسير الى الحرب علناً، بصفة رسمية، كما يسعى أطراف 14 آذار، جعجع والحريري تحديداً.
قطر تقود خصخصة الحرب
لم تكن قطر الصغيرة والمعزولة جغرافياً عن المحيط المشرقي والمبهمة كمثل أعلى سياسي أو تاريخي أو ثقافي قادرة على لعب دور ما لولا أمران: أولاً، استخدام الخصخصة بما تملكه من أموال. وثانياً، الاعتماد المطلق على الجهد الحربي والاستخباري الإسرائيلي في المجالين العسكري والسياسي. بهذا توافرت لهذه الدولة الضئيلة شروط شن حروب واسعة، بعيدة آلاف الأميال عن أراضيها. إن اعتماد قطر أسلوب الخصخصة الحربية السياسية نابع من ضرورات داخلية وخارجية معاً. فحينما ننظر الى المسألة من منظارها الأوسع، نجد أن الخصخصة القطرية جزء من الخصخصة الدولية التي تديرها أميركا من أعلى. فهي خصخصة داخل الخصخصة. لهذا السبب بدت قطر للغرب النموذج الأمثل لإدارة الحرب في سوريا بكل احتمالاتها الخطيرة. ففي حال نجاح الحرب القطرية تكون نتائجها لمصلحة مشرعي الحرب الدوليين. وفي حال فشلها، فإنها مجرد مشيخة تحرس عرشها عصابات المتعاقدين والجيوش الأجنبية، لا أحد يستفيد من مقاضاتها أخلاقياً وسياسياً أو حتى قانونياً. ولكن، حتى معارك الخصخصة تحتاج إلى عناصر مادية لكي تقوم. هنا نشأت فكرة تهيئة القاعدة الأرضية للقتال، وتمّ تكوينها بدرجة رئيسية اعتماداً على ثلاثة عناصر: أولاً، تأسيس قاعدة قتالية سورية بواسطة التهجير، من طريق اصطياد السوريين ذوي الحاجة المادية والنفسية والعاطفية. وثانياً: استيراد المقاتلين. وثالثاً: الإفادة من الجهد والنشاط والخبرة الإسرائيلية، تعويضاً عن النقص الذاتي، وقد تضاءل هذا الجهد بانحسار الدور القطري. في سنوات الحرب الأفغانية فتحت دول خليجية هامشية ومسالمة، تتباكي بأنها مسروقة الحقوق، حدودها لمن عرف آنذاك بالباتان. فتحولت مدنها إلى أسواق شعبية للباتان الذين منحوا حق الدخول والإقامة والبقاء من دون قيود أو شروط للهجرة والعمل والإقامة، في بلدان تضع أعلى القيود على الوافد العربي. كان الباتان، مثل اللاجئين السوريين اليوم، هم القاعدة الذهبية لإنتاج المقاتلين. إن أقل تقدير يؤكد أن عشر المهاجرين إلى بلدان المخيمات يُحتمل تحويلهم الى مقاتلين. وهذا أحد أهم أسرار تعنت إسرائيل في موضوع اللاجئين الفلسطينيين، وأحد أسباب الكرم اللبناني الزائد عن الحد في استقبال اللاجئين. ولم يكن خالياً من الدلالة أن يهدد الرئيس ميشال سليمان أخيراً حزب الله باللاجئين السوريين والفلسطينيين. لهذا السبب جرى افتتاح مخيمات تركيا والأردن حتى قبل تفاقم الصراع في سوريا، وجرى تحاصص اللاجئين السوريين في لبنان حسب الحواضن. لقد قامت الدول المانحة بتأمين مئة ألف مقاتل، في الحد الأدنى، من طريق تهجير مليوني سوري، بنسبة خمسة في المئة فحسب. بهذا أضحت المعارضة السياسية السورية، مهما كانت نياتها وشطارتها، مجرد قشرة إعلامية، تزيينية، مهلهلة، في خدمة المخطط الحربي. إن الأساس العملي للتجربة الحربية القطرية يقوم على قاعدة ثابتة قوامها تسيير المعركة من طريق ادفع واربح، يتم فيها التمويل بصرف النظر عن الانتماء الفكري والسياسي، لمن يحقق انتصارات أرضية سياسياً وعسكرياً، وفي النهاية عسكرياً فحسب. قاد هذا النهج الى نشوء أمراء حرب. وهو عنصر إيجابي في المنظور الأميركي لإدارة الصراع السوري داخلياً. وهو السبب نفسه الذي دفع الأخضر الإبراهيمي إلى الواجهة، لأنه صاحب تجربة التوفيق بين أمراء الحرب الأفغان. التاريخ يعيد نفسه، بطرق ملتوية! لقد تقبّلت السعودية على مضض النموذج القطري، لكنها لم تكفّ عن منافسته بنموذجها القائم على المركزية في إدارة المعركة. يقف النموذج السعودي على الضد من النموذج القطري، القائم على اللامركزية، والمبادرة الذاتية، التي تعطي حرية أكبر لقادة الفصائل وتسمح بظهور أمراء حرب حقيقيين من مختلف المشارب، تحت شعار مختصر: الثورة السورية. وكان يراد لهذا النموذج، مع تطور الصراع، الامتداد الى المؤسسة العسكرية السورية وجيشها النظامي، لكن ذلك لم يحدث. وجد هذا الاتجاه هوى قوياً لدى الإخوان المسلمين، الذين يفيدون عادة من خلط الأوراق في مرحلة الصراع، ثم يفيدون منه عند تجيير النتائج، كما حصل في مصر وتونس وليبيا. بينما تميل السعودية إلى مركزية القرار والإدارة سياسياً وعسكرياً وايديولوجياً، بوضع الجميع تحت قبضتها، وتحريكهم بإرادتها سياسياً وعسكرياً، باتحاد تام مع حلفاء إقليميين داخليين في لبنان وفي الأردن والعراق، بدرجة أساسية، وفي تركيا. يقوم هؤلاء الحلفاء بدور الغطاء السياسي والقانوني وحتى الحكومي للمجاميع الإرهابية المسلحة، بجعلها قادرة على تنشيط المناخ العسكري العام، وعلى رسم وتحديد شروط فتح جبهات جديدة، في أماكن أخرى، بتوقيتات مخططة. لقد سقط الأسلوب القطري نتيجة لبقاء النظام السوري، وعدم تحقق نتائج إيجابية للخصخصة العسكرية حتى الآن. على العكس أضحت نظرية أمراء الحرب، بمرور الأيام، تخيف حتى القوى الدولية، لأنها قادت إلى عراق جديد في سوريا، من المحتمل أن يفوق العراق في حجم أخطاره، لو لم يتم ضبط موازينه المرعبة، بأسرع وقت. هنا برز الدور السعودي باعتباره المصحح للمسار الخاطئ. لقد قاد نموذج الخصخصة القطرية الى نتائح عسكرية باهرة، لكنه قام بإحداث سلسلة من الانحرافات والاختلالات القاتلة: تشتت المقاتلين وابتعادهم عن المحور الافتراضي «الجيش الحر»، وانفصال الحركة العسكرية عن الحركة السياسية، والسياسية عن المجتمع.
السعودية: من الخصخصة إلى المركزية
تزامن هذا الدور مع افتضاح نيات الإخوان، أو بعض أطرافهم، الذين أخلّوا بالاتفاق التاريخي مع السعودية والمشيخات الخليجية، القاضي بتعهدهم بأن يمنعوا توجه الربيع العربي «الشعبي» إلى هذه المجتمعات. لكن ضغط القواعد المتحمسة، التي صنعتها سياسة الخصخصة، والتي تمثلت بسرعة النجاحات العسكرية وتعاظم القوى البشرية المحاربة، والانتصارات في تونس ومصر وليبيا، زادت من أطماع بعض الأجنحة، فمالت إلى المناداة بالتسليح قومياً وتصدير الثورة، تحت شعار تصدير الربيع. قاد هذا النزوع الاجباري إلى نشوء تناقض واضح بين إرادة الجماعات الإخوانية وبين إرادة الملكيات العربية التي اعتبرت خرق الاتفاق معها وتصاعد ميول اجتياز الحدود خطاً أحمر غير قابل للتجاوز. كان من مؤشرات هذا الاتفاق، أو الخط الأحمر، أن قامت دول الخليج والمغرب والأردن بتكوين حزام ملكي، يرسم للإخوان حدود الحركة السياسية والعسكرية. وقد ظهر شكل أعلى من هذا التدبير الاحترازي حينما سعت السعودية إلى تكوين وحدة عسكرية خليجية في اجتماع مجلس الجامعة العربية الأخير. لقد فات هؤلاء أن حركة الواقع، في ظل مناخ مضطرب، لا تتقيد كثيراً بالاتفاقات النظرية، بل تتأثر بقوة بالوقائع على الأرض. تأزم الوضع الإخواني في تونس، وتعقده في ليبيا، والخسائر في سوريا، قادت إلى خروج الجيش المصري من حياديته وانقلابه على الإخوان، تزامناً مع الفشل القطري. لقد انعكست هذه الوقائع مجدداً على النهج السعودي، الذي أثبت الآن أنه غير صالح للعمل أيضاً، لأنه تأخر عن موعده أولاً، ولأنه يقاد من قبل مثل أعلى شديد التخلف، لا يرتضيه لنفسه حتى أخلص المتعاونين معه. وهذه واحدة من أبرز خصوصيات الواقع العربي المأسوية: التحالف مع مثل أعلى تعافه النفس. لذلك اضطرت السعودية إلى القبول بتشغيل نموذج مزدوج، قوامه العودة الى النهج القطري الذي يلائم في الوقت الحاضر تشتت وتبعثر الجماعات المقاتلة في سوريا، ولكن من طريق ربطه بإدارة الاستخبارات التي يقودها ميدانياً بندر بن سلطان. لقد نشأ مزيج هجين من المركزية الأمنية السياسية العسكرية والخصخصة الحرة، لكنه مزيج مطبوخ على عجل، لملء الفراغ الذي أحدثه اختفاء الدور القطري. وما معركة «الله أعلى وأجل» في الغوطة الشرقية، في تشرين الثاني، سوى نتاج حسي لهذا الخليط. قوات متعددة المشارب، ولكن تحت قيادة وتخطيط ومركز عمليات أدير من أعلى، بتوافق أردني سعودي أميركي. ولهذا السبب سارعت السعودية إلى تطوير الاتصال بإسرائيل، لأن غياب الدور القطري الذي يعتمد في جانبه الاستخباري والسياسي على إمكانيات الاستخبارات الإسرائيلية، جعل السعودية مرغمة على مد يد التعاون إلى الإسرائيليين، لملء الفراغ الأمني، الناشئ من انحسار الدور القطري.
إن الإرهاب، بصرف النظر عن حجمه وغاياته المباشرة، أكبر الأوراق الرابحة لدولة متحجرة، ومتفسخة كالسعودية، لأنّ الإرهاب يدفع السعودية شئنا أو أبينا إلى موقع الاعتدال ظاهرياً وصورياً، في الحسابات السياسية الشكلية. إنّ صناعة الارهاب دولياً تتيح لدول كثيرة تعيش النمط الخليجي والمغربي والأردني أن تبدو الصورة المعتدلة والمقبولة للحكم عالمياً، وحتى محلياً، في مواجهة التطرف الارهابي من جهة والميول الاجتماعية الجذرية من جهة ثانية. وهذا واحد من أكبر الإشكالات التاريخية التي تواجه المجتمعات العربية. فقد جرى حصر الصراع بين بديلين: الارهاب التكفيري من جهة ونظم الحكم المتخلفة تاريخياً من جهة أخرى. حتى الغرب الديموقراطي مال إلى هذه المعادلة التي أضحت في النهاية رصاصة الموت لأي تغيير عربي باتجاه ديموقراطي. بهذا تكون السعودية العدو الأول المعوق لحركة التاريخ العربي المعاصر.
من هي القاعدة؟
يقوم النهج السعودي، في حال عدم توافر ظروف الانتشار العسكري المباشر، كما هو جار في البحرين، إلى تنشيط الإرهاب الدولي لغرض تنفيذ خططه الحربية والسياسية.
إن بنية تنظيم القاعدة هي أفضل شكل تنظمي يمكن استخدامة كجهاز صدامي وعسكري، متحرك دولياً، يلائم دولاً ذات مشاريع عدوانية مثل السعودية. هلامية هذا التنظيم، وسرعة مناقلاته القارية، تسهل مهمة إدارته «استحصال نتائج أفعاله» من قبل أجهزة الاستخبارات والدعاية والاستثمار السياسي. وهو تنظيم يوفر لمستخميه فرصة إخلاء السبيل عن الارتباط المباشر بهذه القوى ويعفيهم من المساءلة، ويسهل على الدولة المستخدمة مهمة رفد هذه التنظيمات بالمقاتلين طوعاً، بفتح الحدود وقنوات الاتصال، أو كرهاً من طريق التضييق على هذه الجماعات، وفتح ثغر لها للوصول إلى مراكز التحشيد. إن ما يعرف بالدولة أو الإمارة الاسلامية خرافة وذريعة سياسية ودعائية لتزكية نظام بال كالسعودية. إن مموّلي القوى التكفيرية على معرفة تامة بأن هذه التشيكلات مصممة، مهما بلغت قوتها، ليس من أجل إقامة أنظمة حكم ثابتة، بل من أجل التمهيد للآخرين، سواء أكانوا خطاً سعودياً «وهابياً» أم خطاً إخوانياً، للوصول إلى السلطة، باسم الاعتدال والوسط.
أسطورة «القاعدة»، وزعمائها الحقيقيين أو الوهميين، التي أسست الملامح الرئيسية للتعبئة العالمية ضد الإرهاب، تختفي وتظهر عند الحاجة. فقد أخذ أبرز الذين استخدموها يؤكدون أنها وحدة إثارة ميدانيّة متحركة ومتغيرة، أكثر مما هي واقعاً ثابتاً ذا أبعاد اجتماعية ووجودية متينة وفعليّة. فهي لا أكثر من جيوب وخطوط محتملة الوجود، تعبوية، تعمل في اتجاهين: تنشيط فعل الحضانات التكفيرية وتوجيه مساراتها، ورفد الجهد العسكري والاستخباري الدولي من طريق صناعة واقع تشغيلي فعال، يمهد الأرض لتنفيذ خطط سياسية وعسكرية متوسطة وبعيدة المدى في المجال الدولي، أي إن نواة «القاعدة» عبارة عن شحنات عنفية مزدوجة، مبرمجة، تتحرك حيث توجد أقفاص التفقيس التكفيرية، وحيث يراد رسم خريطة سياسية محتملة. لكن هذه النواة، أو النوى على وجه الدقة، محاطة بعدد غير معلوم من الالكترونات التطوعية، السائبة، التي تعمل بشكل ذاتي من طريق التحفيز والشحن الروحي، الذي يخلقه الواقع المأزوم، ومناخ الحرب العالمية على ما يعرف بالإرهاب، وبمرض الخوف من الاسلام. فـ «القاعدة» ليست حزباً سياسياً، وليست هيكلاً تنظيمياً. إنها روابط خيطيّة مموهة، تعمل وتتفاعل وتنجز مهماتها، في محيط ناشط وانفعالي، من طريق الروابط الشبحية، مسنودة بالمبادرة الفردية الطوعية والفعالية الذاتية من قبل العناصر الأكثر مثالية وإخلاصاً للهدف الجهادي. فهي حركة عالمية افتراضية مشاعة، لكن الولوج اليها لا يتم إلا من طريق كتابة رمز الدخول السري المتفق عليه. أما ترابط خطوطها «أفادت من تقنيات الاتصال بشكل جيد، ومن خبرات نقل المعلومات والأسلحة التابعة لأجهزة الاستخبارات الدولية» فيتم من طريق تشابك قنوات الاتصال، المباشرة وغير المباشرة، بين قيادات ميدانية متحركة، وهمية حيناً، وصحيحة حيناً آخر، ومزيج من الوهم والحقيقة حيناً ثالثاً. هذا التكوين الهلامي يلائم تماماً دورها التشغيلي أولاً، باعتبارها محرك احتراق ذي أهداف تمهيدية، لا يصنع خاتمة الأحداث، ولكن يكتفي بصناعة المناخ الملائم لتحرك سياسي وعسكري ما. وثانياً، يموّه ارتباطاتها بمصادرها الخارجية، التي تكون في أحوال كثيرة معادية في الظاهر لتوجهات «القاعدة» والحركات التكفيرية. ومنها ما يجمع بين العداء والتعاون. ولا يشمل هذا ارتباطات الأفراد المتطوعين تحت تأثيرات مثالية وإيمانية صادقة، أو دوافع عاطفية وأخلاقية، الذين ينخرطون بحماسة دينية وعاطفية ويؤسسون خلايا تلقائية، تهب نفسها لـ «القاعدة»، أو تضع نفسها في خدمتها. تفجير قاعدة تشابمان ــ خوست الافغانية تم بواسطة عميل رباعي الولاء، تشاركت فيه طالبان والاستخبارات الباكستانية والأردنية والأميركية، التي رفعت الطبيب همام خليل البلوي إلى مرتبة أهم خمسة أصوات جهادية في «تنظيم» القاعدة، قبل أن يفجر مقر الاستخبارات الأميركية في 30 كانون الاول 2009. أحداث 11 أيلول، التي هزت العالم، خضعت للمبدأ ذاته: خيط للقاعدة المدارة من الخارج، هدفه إعلامي، بخسائر محدودة وأرباح دولية عظيمة، ÷ وخيط للقاعدة المتمردة خُطط للسير بالعملية الدعائية الى غايات أكبر وأبعد، من وراء ظهر الفريق الأول، وخيط جهادي عفوي امتثل للفريقين السابقين ونفذ ما أرادا، من دون شروط. مقتل ممثل الأمم المتحدة في بغداد، سيرغيو فييرا دي ميلو في آب 2003، على يد القاعدة، دليل لا يقبل النكران على أن ما يعرف بالقاعدة اسم «حركي»، تختفي تحته جماعات مختلفة الأصول والأهداف والارتباطات، تحركها أياد دولية، ويفيد من خدماتها كل مشتر متحمس للدفع والإيذاء.
الحقائق المتعلقة بدور القاعدة السياسي والعسكري ستظل خفية إلى أمد طويل قادم، بيد أن تقلبات الواقع قد تلقي بعض الضوء على جوانب مظلمة من تاريخ هذه الحركة وأسرارها. لكن الثابت اليوم، أن الحركة التكفيرية العسكرية في منطقتنا، بصرف النظر عن مسمّياتها، تدار لمصلحة النشاط العسكري والسياسي السعودي، الذي يصرّ على اعتقال التاريخ القومي كله في مشاريعه المتخلفة.
*صحيفة الأخبار اللبنانية - سلام عبود