شركة عدن للأمن والسلامة

  

مقالات
د . ريم عبد الغني

شغف

الأربعاء 11 ديسمبر 2013 02:24 صباحاً

أصابعه تضم القلم باهتمام شديد، وعيناه تتابعان الخطوط التي يرسمها بحنان لا يوصف.

يفكر قليلاً ثم يعود ليكمل خطاً منحنياً بدأه قبل قليل: "هذا هو الميناء".

يرسم خطاً منحنياً آخر مغلقاً هذه المرة: "وهذه كريتر ، شبه جزيرة، يفصلها عن اليابسة الجزء الذي ندعوه خور مكسر".

يسند القلم إلى الشفتين السمراوين مستغرقاً... يبحر في خطوط بدائية، يرسمها-هو الذي لم يجد الرسم يوماً- بحبر عاشق..

أستكين قربه بصمت... وأتجنب أن أقطع تأمله... هو الآن في عالم آخر.,. لست موجودة في هذه اللحظة-المكان.. التي تجمع الحزن والفرح في خط أسود على ورقة بيضاء.. وتحمل صديقي إلى عالم عاش فيه طويلاً..

"عاش فيه؟" .. بل ولا يعيش إلا له..

كمن يتراءى له حلم غال، يتمتم ويده تنتقل متعثرة على الورق:

"هناك هو المعلا ، في الجزء الغربي من عدن... منتصف الطريق بين كريتر وحي التواهي الجديد" .

يتردد قليلاً، جليّ أنه يصارع شيئاً في أعماقه، ثم يظهر طيف حنين مؤثر في خلجات وجهه وعينيه، وهو يشير بحزن بطرف القلم: "هنا.. هنا.. بيتي وأمامه البحر على امتداد النظر..." .

يرتجف القلم في اليد السمراء ويضطرب الصوت الذي اعتدته جهورياً، وأكاد أسمع هدير طوفان أحاسيس يغالبه...

سنين طويلة عاشها في تلك المدينة...

أحبها وأحبته...

أعطاها.. وأعطته.

أخلص لها، وما فتئت تناديه.

عدن يا عدن...

جبالك السود تسكن عيني رجلي...

وأنت عشيقته التي أبارك استئثارها ببعض روحه.. وأتقاسم قلبه معها عن طيب خاطر.

قبل أن أعرفه لم أكن أتخيل أن تنام مدينة بين أهداب إنسان... وتستفيق بين أجفانه.. وتملأ فكره وقلبه.. تستولي على ثوانيه وأبده.. وتظل شغله الشاغل... حتى تصير موضوع حديثه أغلب الأحيان.. فيحب أن يحكي لي عن عدن.. وأحب أن أصغي لهما...

أؤخذ بفيض الشغف... وأرسم في خيالي صورتها ملفوفة بالغموض...

أطل من فوق جبالها السود.. على شاطئ مفتوح أبداً لأمواج البشر وطوفان الأفكار...

"أراها" نورس أبيض مستلقياً في كفّ عملاق أسمر... فوق كون ماء صاف..

توقظ فيّ غريزة المستكشفين الأوائل للحضارات المخبوءة في حضن الأرض...

أتأمله بإمعان، ينكبّ على الورقة كطفل يمسك القلم للمرة الأولى، ليدخل بانبهار عالم الخطوط والألوان، ينهمك بكل حواسه كأنه يبدع اللوحة الأحلى.

من يستطيع أن يعيش قربه دون أن "يتشرب" حبه لعدن؟...

أتقفّى خطوط "الفطرة" ... كان يرسم عدن كما "يشعرها"، كما يحبّها، كما يعرفها، لم يكن يحاول تذكّر خريطة حقيقية للمدينة، كان يرسمها كأنه يجوب شوارعها بسيارته، أو يسير متمشياً في دروب يتوق رائحتها... يلقي التحية على الساهرين في شرفات بيوتها... له مع كل حجر فيها ذكرى حميمة.

يتملى في أرجاء الورقة بنهم عاشق ، قبل أن يعود دوماً إلى ذات النقطة.. "بيته"... كأن مغناطيساً يجذبه إلى إشارة تركها هناك مع بعض قلبه... يتململ محاولاً انتزاع نفسه منها... لكنه يعود ليمعن النظر فيها، حتى تكاد تقنعني ملامح الوجه الحاني أنه حقاً... حقاً يرى "بيته" داخل إشارة قلم الرصاص الصغرى تلك.

لا بد أنه "يرى"... فعيونه تعكس عشرات الصور، وأنفاسه العميقة المتلاحقة تروي سيل قصص، وابتسامة حزينة وحالمة على فمه، تنظم أشعار حنين وشوق.. حب وألم .

قلما أشاهد الرأس الشامخ ملقى بين الكفين الكبيرتين... مارد يصارع مشاعر قاسى سنين لإخفائها...

مثقل أنت بالهموم والأحزان يا صديقي؟ متعب أنت بالذكريات يا غالي؟

لا يردّ... عيناه معلقتان بالورقة أمامه، بريقهما الغامض يعكس الحنين حين يصير وجعاً، يترجم الافتقاد حين يجعل من أي مكان خارج الوطن جحيم غربة...

تتولاني الرهبة... كأنني في أقداس معبد قديم، وكأن "الغالي" أمام ورقته "يصلي"....

*****

كان ذلك ليلة البارحة... هذا الصباح استفقت وشعور غريب يتملكني، كأني عدت لتوي من عدن!! كيف أرى في حلمي مدينة لا آعرفها؟..

ربما لأن عدن ليست أي مدينة، إنها رجلي..

غادرت فراشي، وقادتني قدماي الحافيتان إلى حيث جلسنا بالأمس، بحثت بلهفة عن الورقة... "المخطط العاطفي" لعدن، ووجدتها، لكنني فوجئت بالخطوط المتشابكة... تبدو كأنها....

بوعيه رسمها كذلك؟ لست أدري...

لكني على يقين أني رأيت الخطوط تعانقت في باقة ورود رقيقة... وأن عبيرها، حتى اللحظة، لم يفارقني..