رمضان وفرصة تحقيق الوحدة الإنسانية الشاملة!
ماذا يعلمنا الصوم؟ إن من أعظم الدروس التي تفيض من مشكاة هذا الشهر الجود والكرم والعطاء بسخاء كبير، ألم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم جوادا وأجود ما يكون به في رمضان؟ ألم يكن رمضان شهر التوسعة على الأهل والعيال؟ ألم يكن رمضان شهر الخير وشهر العلم وشهر العمل؟ فما بالنا جعلناه شهرا للأنانية والذاتية والفردية والبعد عن المجتمع؟ ألم تتدبر الألسنة المرددة قول الله تبارك وتعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ ۖ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ ۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}؟ فلماذا نتجاوز عنها ولم نحفل بها؟
لقد جاء رمضان ليثير فينا كل نوازع الاتصال الجماعي والإحساس بالآخرين والتخلص من الدوران حول فلك الذات، بدءا من الصوم ذاته، لينتظم المسلمون جميعا بوقت واحد وشعائر واحدة، يصومون ويفطرون بذات الوقت واللحظة، ليصبح الفرد مندمجا في جماعته؛ أهله وخاصته وأهل قريته ومدينته والقطر الذي هو فيه، ليتعدى ذلك ويعم المسلمين كافة، وبذلك تتحقق الوحدة الروحية لهذا الكم البشري المتناثر في سلك تعبدي واحد هو الصوم، ولذلك جاءت نصوص الصوم في أغلبها تخاطب جماعة المسلمين وليس فرديتهم.
ويعمق رمضان الإحساس الجماعي بنظرته للآخرين، فيحارب الأمراض النفسية التي ابتلي بها بعض الناس، وأهمها البخل، فيوجه الناس نحو البذل والعطاء بسخاء دون كبر ورياء وتفاخر زائف، ولذلك تجد أن أعمال المسلم مضاعفة الأجر في رمضان، ليس لأنها متصلة بمشقة الصيام وحسب، بل لأن هذا الشهر ذو خصوصية بالغة القيمة في الميزان الربانيّ، فكانت التوجيهات النبوية بالتصدق على الفقراء بما منّ الله به على الناس من مال وثروة ونحو ذلك، وكانت صدقة الفطر عامة لكل المسلمين غنيهم وفقيرهم، ليشعر الجميع بهذا الإحساس الإنساني البديع في مقاومة شهوة النفس والاستحواذ على المال، فيجب التصدق حتى الفقير على الفقير والمسكين، ولذلك جاء التوجيه النبوي في شأن زكاة الفطر أنها "طُهْرة للصائم وطُعْمةٌ للمساكين"، نعم طهرة للصائم من أدران كثيرة أولها الدرن النفسي المتمثل في البخل، وثانيا الشعور مع الآخرين حتى الفقير يجب أن يلتفت إلى قيمة أعظم وأهم إنها الإيثار، نعم إنه الإيثار الذي يجعل النفوس أطيب وأنقى!!
لقد كان رمضان وما زال طبيب النفوس المتعبة التي أشقتها المجهودات المادية والنفسية، إنه الفرصة الذهبية التي تجعل الصائم أكثر تأملا وإحساسا بالإنسانية والمسؤولية متناغما مع غيره، ولذلك فإن هذا الشهر شهر الاعتدال والاستقامة، بما تعم به من أجواء الرحمة والمحبة الجماعية، شهر تخلو به البطون من ملذاتها لصالح القلب فيصبح أكثر رقة، وشهر تضيق فيه الأمعاء ليصبح العقل أكثر قدرة على التفكير السليم، فتكون المحصلة نفس بشرية مقتربة من فطرتها وتحس بأوجاع غيرها قبل الإحساس بآلام الذات ومنغصاتها.
هكذا هو الصوم، وهكذا هو رمضان، ليس ركضا وراء ترسيخ الأنا وحب الذات وجمع المال، بل إنه الظرف المناسب لإنفاق المال حيث يجب أن ينفق في وجوه الحب الإنساني ليصبح المجتمع أكثر تماسكا وأصلب عودا، وأقوى جبهة داخلية، عند ذلك يكون المجتمع أكثر قدرة على تحقيق المهمة التي وجد من أجلها وهو عمارة الأرض بالكيفية المطلوبة والمشروعة، شريطة الابتعاد عن البخل والذاتية، لنكون أجدر بفلسفة الصيام وتحقيق الغاية من شهر رمضان، فليس الصيام ساعات تقضى بالجوع والعطش الخاوي من أي هدف، فلنتأمل ذلك ولنحرص على تمثله، فرمضان فرصة للعقل والنفس والروح لتتجدد ولتنتظم في جماعتها لتحقيق الوحدة الشعورية المفضية للوحدة الإنسانية الشاملة!!