عندما خرجت أتمشى
عندما خرجت أتمشى: عن التحرش وحملة شوارع آمنة
تراقص المشهد أمامي، وأنا أقرأ كتاب "يحدث في الطريق"، التي أطلقته حملة شوارع آمنة اليمنية.
وتذكرت.
نصف ابتسامة تمتزج بالأسى تتأرجح على شفتي.
تذكرت أول ما فعلته عند وصولي إلى السكن الطلابي في مدينة بافلو، ولاية نيويورك الأمريكية. كان ذلك قبل عشرين عاماً تحديداً.
كنت قد حصلت على منحة الفولبرايت الأمريكية، وبقائي في بافلو كان مؤقتاً ضمن برنامج توجيهي يهدف إلى تعريفنا، نحن الطالبات والطلاب، بالبيئة الجديدة التي تنتظرنا.
تذكرت كيف القيت نظرة عابرة على غرفتي، جميلة، لكن ذلك لم يكن شاغلي. وضعت حقيبة ملابسي سريعاً، ثم خرجت من غرفتي مصممة.
عاقدة العزم، فرحة.
أكاد أختنق من التوقع.
لا أريد سوى شيئا واحداً: أن اتمشى.
أن اتمشى.
في الشارع.
وحدي.
كان ذلك اول ما فعلته عند وصولي إلى بافلو.
تمشيت!
وتمشيت فعلاً. وحدي.
استنشقت الهواء بملء رئتي، جمعت ألوان الطبيعة بعيني، وودت لو أغلقت جفني عليها، كي تمتزج بروحي. وسلام يصافح الكون بجلاله يملأ نفسي.
لم أعرف حجم الأذى الذي كنت اتعرض له في شوارع صنعاء، إلا في تلك اللحظة.
في تلك اللحظة.
ادركت حينها سبب جوعي للتمشي.
أردت أن أتمشى دون مضايقة، دون أعين تخترقني، دون كلمات تجرح روحي.
أردت أتمشى دون أن أشعر أني كتلة من لحم تتربص بها مجموعة من حيوانات مسعورة.
أردت أن اتمشى بأمان.
هنا لا يتربص بي أحد. امشى بكرامة. لا اضع على وجهي غضب الله كي ارهب من تسول له نفسه التحرش بي. هنا أمشى وانا مبتسمة.
الرجال يمرون بجانبي، لا يتحرشون.
تذكرت ذلك المشهد وانا أقرأ كتاب "يحدث في الطريق" الذي شارك في أعداده مجموعة من الشابات والشباب اليمني، من الناشطات والناشطين.
كتاب يحكي عما يحدث لنا في الطريق، نحن، من الطفلات، الفتيات، والنساء.
حصلت على نسخة من الكتاب من مديرة حملة "شوارع آمنة لمناهضة التحرش الجنسي في شوارع اليمن"، الناشطة غيداء مطهر العبسي. ارسلته لي عبر الفايس بوك. شكرت لها رغبتها في أن اطلع على الكتاب ونتائج الحملة. واستأذنتها أن أكتب مقالاً عنه. فسمحت لي.
غصصت وأنا أقرأ صفحات الكتاب (وصلة الكتاب أدناه).
صفحة بعد أخرى.
امتهان بعد أخر.
لطفلة في العاشرة، لطفلة في الثانية عشرة من عمرها، لفتاة، لإمرأة متقدمة في العمر. والحكايات والسرد معها في توالي .
وسواء أن ارتدت شرشفاً يطبق بالأسود عليها، او كانت مرتدية حجاباً يفسح مجالاً لضياء وجهها، الأمر لن يختلف كثيراً. التحرش يحدث. لنا، لهن، في كل مكان. في الشارع، في التاكسي، في الباص، في مكان العمل، ثم من الجيران.
كأننا ارض مشاع، يحق لكل من يريدْ، أن يضع يده عليها.
اعيش منذ عشرين عاماً في دول غربية.
ولم اتعرض يوماً واحداً للتحرش في الشارع.
هل تسمعون؟ لم اتعرض يوماً واحداً للتحرش في الشارع.
الرجال هنا ليست مسعورة. لا تبحث عن اللحم. بل تنظر إلي كإنسان.
اعرف بالطبع أن التحرش يحدث أيضاً في الدول الغربية ، في أماكن العمل. لكن الويل له من يظن أنه سيفعل ذلك ويفلت من العقاب. هناك قوانين، وهناك وعي بوجود هذه المشكلة، وهناك سرعة في ملاحقة الجاني.
في إسرائيل وهي قريبة منا اضطر رئيس الجمهورية للاستقالة لأنه تحرش بموظفات لديه.
في اليمن منْ تعرضت لتحرش رئيس الجمهورية اختارت أن تهاجر. منْ يحميها في بلدٍ حاميها حراميها؟
ليس هناك قانون يحمي المرأة من التحرش في اليمن.
تذكرت أيضاً كيف كان "التحرش" امراً معروفاً لا نتحدث عنه هنا.
خزي يحدث ولا نتحدث عنه.
وأنا إلى يومنا هذا لم اتحدث عن هذا الموضوع. لأنه لازال يؤلمني. كثيراً.
لكني فرحت، والله فرحت، وأنا أقرأ أسماء ناشطات يمنيات معروفات مثل أفراح ناصر، وهن يتحدثن عن تجاربهن. عن أول حادث تحرش تعرضن له.
وهند الإرياني تتساءل بشكل مباشر، "لم لا يتنقب الرجال"؟ كما تطالبوننا نحن النساء بالتنقب كي لا نفتن الرجل، سيكون عليه أيضاً ان يتنقب كي لا يفتننا. أحببت مقالها. ابرز العوار في المنطق الذي يتحفوننا به.
يوم نكسر جدار الصمت نتحرر.
قلتها من قبل.
وكتاب "يحدث في الطريق"، والحملة التي يدشنها منذ أغسطس 2011، كسر ذلك الجدار، وقدم لنا في الوقت نفسه جيلاً ونوعاً جديداً من الناشطات والناشطين.
فتيات واثقات قويات. وشباب واثق قوي.
يقفن متحديات لمن يقول "هذا لا يجوز، هذا مخجل، هذا نصمت عليه، هذا لا نفعله".
جيل جديد يقول لنا ان التغيير ممكن، نستطيع أن نحققه بأيدينا، بمواجهة ما يحدث، ثم رفضه والسعي لتغييره.
مع هذا الجيل أضم صوتي.
أنا لم أتحدث يوماً عن التحرش الذي تعرضت له.
لن ازعجكن بتفاصيله.
يكفي أن أقول، أنه حدث لي أيضاً.
وأن الوقت حان كي نقول له جميعاً: كفى.
إلهام مانع
خاص عدن اليوم