دَمُون ..إنَّا معشر جنوبيون
أتخيل أن الشاعر العربي الشهير امرؤ القيس بن حجر الكندي, سليل ملوك كندة , لو نهض من قبره ورأى تطاول ليل الوحدة (اليمنية) الضيزى والمغدور بها, لغيَّر فحوى بيته الشهير على النحو التالي:
تطاول الليل علينا دمون
دمون إنا معشر جنوبيون
وإننا لأهلنا محبون
وسيكون محقاً ولن يتغير في المعنى شيءٌ لأن قوله (يمانيون) لا تتعارض مع القول (جنوبيون) في زمنه وفي كل الأزمنة اللاحقة.. لأن اليمن التي عناها هي جهة الجنوب أي كل ما كان على يمين الكعبة ولم يكن يعني بذلك هوية أو دولة قائمة حينها بصفتها (اليمنية) اللصيقة بها. فمثل هذه الهوية أو الدولة لم نجد لها أثرا في التاريخ القديم, ولا في التاريخ الإسلامي...وحتى مطلع القرن العشرين الفارط فقط, حتى ظهرت أول دولة تُسمى يمنية هي المملكة المتوكلية اليمنية..ثم احتفظت الجمهورية العربية اليمنية بالاسم بعد الانقلاب الذي أطاح بالنظام الإمامي..أما الجنوب فحتى عام 1967م لم يُنسب قط إلى أية دولة بصفتها اليمنية وعُرف باسماء سلطناته ومشيخاتها المحلية التي توحدت عشية الاستقلال باسم جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية, وهذه التسمية لها ملابساتها التي بدأت خيوطها تتكشف الآن ولسنا بصددها هنا.
وهاكم الدليل التاريخي عن المعنى الحقيق المقصود باليمن.
أولا: من المصادر الكلاسيكية القديمة (الأغريقية والرومانية) التي قسمت الجزيرة العربية إلى ثلاثة أقسام, العربية السعيدة (ولم تقل اليمن السعيد), والعربية الصحراوية والعربية الصخرية..وتبدأ العربية السعيدة عند بطليموس حوالي عشرة كيلومترات جنوب العقبة ويمتد خط حدودها شرقاً عبر صحراء النفوذ حتى يصاقب الخليج وجنوباً تمتد حتى البحر العربي. فهي تشمل معظم جزيرة العرب أما ما تبقى من الجزيرة العربية فهي العربية الصخرية والعربية الصحراوية. وكلاهما تقع في شمال الجزيرة العربية .. ولما كانت لفظتا الشام واليمن بمعنى الشمال والجنوب واسعتي المدلول, وهما في الأصل تدلان على الجهة , فإن استعمالهما للدلالة على تسمية ذات معنى محدد لم يكن شائعاً في التاريخ العربي (انظر: يوسف محمد عبدالله أوراق في تاريخ اليمن وآثاره, ط2, 1990, ص11, ص13).
وثانيا: تعالوا نتعرف أيضاً على تسمية اليمن كما جاء في "لسان العرب" لابن منظور, فهو يقول: اليَمَنُ, ما كان عن يمين القبلة, ونظيره الشأْم, ويدل على أَن اليَمن جنسيّ غير علميّ..وقيل لناحية اليَمنِ يَمَنٌ لأَنها تلي يَمينَ الكعبة, كما قيل لناحية الشأْم شأْمٌ لأَنها عن شِمال الكعبة. وقال النبي, صلى الله عليه وسلم, وهو مُقْبِلٌ من تَبُوكَ: الإيمانُ يَمانٍ والحكمة يَمانِيَة؛ وقال أَبو عبيد: إِنما قال ذلك لأَن الإيمان بدا من مكة, لأَنها مولد النبي, صلى الله عليه وسلم, ومبعثه ثم هاجر إلى المدينة. ويقال: إن مكة من أَرض تِهامَةَ, وتِهامَةُ من أَرض اليَمن ومن هذا يقال للكعبة يَمَانية, ولهذا سمي ما وَلِيَ مكةَ من أَرض اليمن واتصل بها التَّهائمَ, فمكة على هذا التفسير يَمَانية, فقال: الإيمانُ يَمَانٍ, على هذا؛ وفيه وجه آخر: أَن النبي, صلى الله عليه وسلم, قال هذا القول وهو يومئذ بتَبُوك, ومكّةُ والمدينةُ بينه وبين اليَمن, فأَشار إلى ناحية اليَمن, وهو يريد مكة والمدينة أَي هو من هذه الناحية (انظر: لسان العرب- مادة يمن).
وللمزيد نقرأ في "معجم البلدان" لياقوت بن عبد الله الحموي(توفي 626هـ), وفي "المسالك والممالك" لأبي القاسم إبراهيم محمد الكرخي الإصطخري (عاش في النصف الأول من القرن الرابع الهجري) هذا التعريف: اليمن المشتملة على تهامة، ونجد اليمن وعمان ومهرة وحضرموت وبلاد صنعاء وعدن وسائر مخاليف اليمن، فما كان من حد السرين حتى ينتهي إلى ناحية يلملم، ثم على ظهر الطائف ممتداً على نجد اليمن إلى بحر فارس مشرقاً فمن اليمن، ويكون ذلك نحو الثلثين من ديار العرب، وما كان من حد السرين على بحر فارس إلى قرب مدين، راجعا في حد المشرق على الحجر إلى جبلي طيء، ممتدا على ظهر اليمامة إلى بحر فارس فمن الحجاز، وما كان من حد اليمامة إلى قرب المدينة، راجعا على بادية البصرة حتى يمتد على البحرين إلى البحر فمن نجد. و على إنّ من العلماء من يقسم هذه الديار و زعم إنّ المدينة من نجد لقربها منها و إنّ مكة من تهامة اليمن لقربها منها.(أ.هـ).
وهكذا فن التعريف التاريخي لليمن في المصادر التاريخية والجغرافية العربية لا صلة له بالهوية الواحدة أو الشعب الواحد. كما نعرف أيضا في التاريخ القديم أن كل الدول والممالك والكيانات الكثيرة التي قامت في جنوب الجزيرة العربية لم تتسم أيٌ منها باسم (اليمن) . وقد تعارف المؤرخون أن (يَمَنْ )لدى عرب الشمال يعني الجنوب لا أكثر ولا أقل, مثلما يعني الشام (جهة الشمال). ونشير إلى أن الدول القديمة مثل سبأ وحمير ومعين وقتبان وحضرموت وغيرها كانت تؤمن بوحدتها وتاريخها ولغتها المشتهرة, ولم تكن تجعل من الجهة تعريفاً عن هويتها, ولم يحدث أن خاضت حروباً باسم وحدة اليمن.. وقد أنكر الأديب الكبير عبدالله البردوني فكرة أو مفهوم "إعادة توحيد اليمن" كاشفاً أنه لم يتحد عبر التاريخ وإنما تخضع الجغرافية لأنواع من السيطرة الداخلية (انظر:أحمد عبدالله الصوفي, الاعتراف المنيع في المسألة اليمنية, صنعاء, 1999م, ص129, 179).
لقد كانت وحدة 22 مايو 1990م السلمية والطوعية التي بادر بها الجنوب حكومة وحزبا وشعبنا وضحى من أجلها بكل شيء فرصة تاريخية لإعادة صياغة مفهوم جديد لـ (وحدة يمنية معاصرة) كان يمكن لها أن تكون لبنة مضيئة على طريق الوحدة العربية الشاملة, كما أراد صانعوها الجنوبيون, لكن هذه التجربة لم يُكتب لها النجاح, ولم تطل الفرحة بها, إذ سرعان ما كشرت القبيلة عن أنيابها وغدرت بصناعها الحقيقيين وحولتها إلى وحدة غلبة وضم وإلحاق وفيد وغنيمة لصالح المؤسسة القبلية العسكرية المتنفذة في صنعاء التي لا يمكن لرموزها أن يفكروا بمشروع وطني حداثي يكون الجميع فيه شركاء في السلطة والثروة. وهكذا قضت هذه القوى المتخلفة على صفقة الوحدة السلمية في مهدها بالحرب الظالمة التي شنتها عام 94م لغزو واحتلال وضم الجنوب بما رافقها من قسوة ونهب وتدمير لمعالم الهوية الجنوبية, فتحولت تلك الحرب, حسب وصف د. أبوبكر السقاف إلى "استعمار داخلي", [صحيفة الأيام,مارس 1996م], وهو ما اعترف به فيما بعد أحد رموز نظام الاحتلال (الجنرال العجوز علي محسن) الذي أقر بأن نظامه قد (استعمر الجنوب), وعمد نظام الاحتلال بعد الغزو إلى تفكيك وتسريح جيش الجنوب ومؤسساته الأمنية بكاملها وتم طرد مئات الآلاف من كل الأجهزة الإدارية وإحالتهم إلى التقاعد, ونُهبت مؤسسات القطاع العام والأراضي العامة التي كانت الملكية الوحيدة لشعب الجنوب وأصبح الجنوب ميدان نهب وسلب وإقطاعيات خاصة للتتار الجدد.
وهكذا فإن حرب 94م لم تبق ولم تذر شيئاً من مشاعر الوحدة السلمية, في نفوس الشعب في الجنوب الذي أبى القبول بوحدة الحرب والقوة والغلبة والضم والاحتلال والاستعلاء والنهب والفساد. وهو اليوم في ذروة توحده وتماسكه وتعاضده ونضاله المثابر في إطار مكونات حراكه السلمي الحضاري من أجل هدفه النبيل والمشروع المتمثل باستعادة استقلاله ودولته وهويته الجنوبية, ولم تعد الهوية اليمنية بالنسبة له سوى كونها انتماءً جغرافيا لجهة جنوب بلاد العرب, كما حددتها كتب التاريخ القديم, وكما كانت لدى أمرئ القيس الكندي, مثلما ينتمي اليوم الأردني والسوري والفلسطيني واللبناني إلى الشام(جهة الشمال) وليس لهوية سياسية معينة أو دولة موحدة للشام.
وليس لشعب الجنوب اليوم صلة بهوية يمنية سياسية مختزلة بمسمى(الجمهورية العربية اليمنية) كنظام سياسي قبلي انقلب على الشريك الجنوبي وتحول إلى محتل لأرضه. فهويته إذاً عربية جنوبية, ومن حقه أن يستعيد دولته باسمها الذي دخل فيه شريكا (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية) أو يختار لها, بعد ذلك, أي مسمى جديد يرغبه فيه. فالمغرب تسمى ببساطة المملكة المغربية (هكذا), وهذا لا يلغي عروبتها أو انتمائها لمحيطها العربي..كما أن دولة (جنوب السودان) المستقلة حديثاً لم يعد لها أي ارتباط بجمهورية السودان إلا بالاسم.
ومن حق شعبنا في الجنوب ان يحصل على استقلاله ودولته بإرادته وثباته وإصراره, ولن نختلف على اسم الجنوب الجديد الذي يتشكل الآن, حتى لا نضع العربة قبل الحصان, وشخصيا أحبذ إطلاق تسمية حضرموت على جنوبنا الجديد, فقد كان الجنوب بكامله في التاريخ القديم منضويا في إطار مملكة حضرموت, وهي الوحيدة التي حافظت على اسمها القديم من بين كل الممالك العربية الجنوبية, فضلا عن دور الحضارم وتميزهم في نشر الإسلام بحسن سيرتهم ونقاء وتفرد شخصيتهم وأمانتهم وانتمائهم لروح العصر وكسبهم لثقة الجميع, وصدق معاوية بن أبي سفيان حين أوصى واليه على مصر عمرو بن العاص بقوله:" لا تولِّ عملك إلاَّ حضرميا فإنهم أهل أمانة".. علماً أن هذا لا يلغي يمانيتنا (الجهوية) أو جنوبيتنا أو عروبتنا كما عناها أمرؤ القيس الكندي الحضرمي اليماني الجنوبي العربي.
ختاما.. وفي هذا الليل المعتم الحالك السواد الذي تطاول واستطال وتأخر منذ اغتيال حلمنا الوحدوي واحتلال أرضنا أكرر قول شاعرنا القديم أمرئ القيس الكندي(بنفس التحوير الذي لا يخل في المعنى):
تطاول الليل علينا دمون
دمون إنا معشر جنوبيون
وإننا لأهلنا محبون