الشعب المهاجر
مهاجرون نحن لا شرعيون.. لاجئون و غرباء في أوطاننا, فلا شيء في وطننا
يشبهنا و لا توجد لغة أجمعنا عليها لنتخذها جسرا نمده فنتواصل فيما بيننا..
كل ليلة يتخذ كل واحد وجهته الخاصة و يسافر نحو أقاصي الأرض
فتراه كأبناء الجن ساعة في أوروبا و أخرى في بلاد الهند و ساعات في أمريكا..
يتجول باحثا عن ذاته المفقودة و مفتشا عن مستقر و ملاذ يلجأ إليه هربا
من تعاسة الحياة و روتين المعيشة..
و بسبب افتقار المخيلة الوطنية لزاد ثقافي و بسبب التهميش الإبداعي, إذ اقتصر
على بعض الأسماء التي ملها الناس, و بعض الأعمال التي لا نتذكرها
إلا في المناسبات كأنها ذكرى ميت ننبش بين عظامه و رفاته في كل مرة
لنقيم له الطقوس و ليحرق له البخور و لتتلى عليه الآيات و من ثم ندفنه ثانية
و ينتسى و يصير نسيا منسيا...
إنما الفن أخ البشر ...هما توأمان و عاشقان...بعض الأعمال الفنية تعيش
ما عاش صاحبها و تندثر باندثاره و أخرى تبقى حية فتخلد و تخلد ذكرى
صاحبها...
نحن الشعب المهاجر,ففي كل ليلة نسافر عبر وسائل الإعلام ونقيم في البلدان
المختلفة,كل حسب ميوله و هواه.
شربنا من ينابيع مختلفة واكتسينا كساء مغايرا لنا لا يشبهنا لكننا نحاول إقناع
أنفسنا بأنه يليق بنا.
من كل الثقافات نهلنا,من كل المعتقدات تجرعنا كؤوسا و من كل منبع أخذنا
نشبع ذلك العطش العميق الذي فينا...فصرنا أناسا آخرين...
انسلخنا من جلدتنا كأننا من صنوف الحيات فبانت أنيابنا الزرقاء المتشبعة
بالسموم...ثم رحنا ننفث سمومنا لما يطلع الصباح..حين نعود من هجرتنا...
و نعود لنستقر في أرضنا من جديد...
و رغم كل هذا نسأل دوما أنفسنا نفس السؤال " لم لا نقدر على الاتفاق
فيما بيننا رغم تشابهنا و رغم كل ما يجمعنا ؟ "
نحن شعب يجيد السفر و يعشق الهروب..لأننا نهوى كل الأمور السهلة
و كل الطرق المختصرة...نحن لم نخلق لنفكر و نبتكر بل وجدنا لنستهلك...
" أنا أستهلك إذن أنا موجود..."
لم نخلق إلا لنلعن المفكرين و المبدعين الجدد...ظللنا زمانا من الدهر نقدس
عظماء التاريخ من الشخصيات التي نبغت و تفردت بالعبقرية و جعلنا
من أضرحتهم كالكنائس و المساجد نعبدها, و اتخذنا مقولاتهم قرآنا منزلا
لا سبيل لنقده أو إبداء أفكار مغايرة..فعاشت فينا تلك الأطروحات و الأفكار
كما يعيش السجين بسجنه...لا هي أخرجتنا من ظلمة سجننا و لا نحن
استطعنا التخلص من القيود التي فرضتها رغم ما تحمل من حلول و اجتهادات
عميقة و فعالة...لعل هذا التناقض نتيجة عدم فهم منا أو انتهاء مرحلة
من التاريخ و بداية أخرى يكون فيها العمل الفكري بحثا و انطلاقا من التاريخ
مرورا بالواقع و متغيراته مع نظرة استقرائية و استشرافية للمستقبل .
لقد كبلنا عقولنا فصار فكرنا مستقيلا لأننا نهوى كل الأمور و الأفكار المسبقة
و الجاهزة...فلم نتعب أنفسنا بإعمال العقل و فتح أبواب الاجتهاد ؟
حتى الملابس الجاهزة ليست كتلك التي يخيطها المرء بيديه,فالأولى صنع
آلة لا إبداع لديها و لا حس فني بل هي مقيدة ببرمجية تتحكم في المقاس
و اللون و الشكل...
أما تلك الملابس التي تحيكها الأم لزوجها أو لأحد أبنائها فيمكنك الشعور
بتلك اللمسة من السحر و الجمال, فعندما ترتديها تشعر بأنامل تلك الأم
في كل خيط من الخيوط و تشم أنفاسها كل مرة ترتدي ثوبك و لو غسلته
مليون مرة... و حين تتذكر الجهد الذي بذلته فستسعى للعناية به و الحفاظ عليه..
عندما تبلى العقول و يتوقف الناس عن التفكير و العمل الإبداعي فتلك
المصيبة الكبرى...
فإلى متى نظل أمة مستهلكة لا هم لها سوى إشباع البطون ؟
إن زاد البطن زائل و زاد العقول لا يزول ...
إلى متى نظل شعبا مهاجرا ؟
هل تراه يأتي اليوم الذي فيه يهاجر إلينا العالم ؟