أسباب تشبث الإنسان المعاصر بالدين
ما يحيرني في معضلة الدين هو سبب تعلق السواد الأعظم من البشرية به رغم أن قدراً ضئيلاً من التمحص في ماهيته يجلي في الحين كل عوراته فيتبين المرء دون جهد فكري كبير ودون الحاجة لقدرات علمية ، ثقافية أو تعليمية فائقة أن الدين هو أولاً من إنتاج البشر ولا دخل لخالق هذا الكون ، إن كان موجوداً فعلاً ككائن مادي، في الموضوع . ثانياً وهذا الأهم ، حسب رأيي ، أن هذا الإنتاج الفكري ، البشري ، لا يستقيم إطلاقاً مع عصر العلوم والعقل الذي يعيشه البشر منذ أواخر القرن السابع عشر ، عند بزوغ نور عهد التنوير .
الغريب أن الدين ، إنتاج حقب بعيدة تتتميز بالإفتقار إلى العلم بالمفهوم الحديث ، يحتل مكانةً مرموقة حتى في المجتمعات المصنعة و- الراقية ولا يقتصر ترسخه على المجتمعات الفقيرة و المتخلفة و- اليائسة و التي تنتشر فيها الأمية .
إذاً الواضح هو أن اعتناق الدين لا يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمستوى العلمي أو المادي أو بحدة الذكاء .
لو تبين المرء جلياً لأدرك أن التناقض الجلي الساكن في تشبث البشر ، العقلاء، الأذكياء ، بأفكار أسطورية ، تحتوي على العديد من الأفكار و الأحكام الغير منطقية كما الساذجة ، التي تناسب الحقب التي أنتجت فيها لكنها لا تمت في الظاهر بأي صلة بالإنسان الحديث ، لا مبرر له أمام الخدمات الجالية التي يؤديها .
إنه من الحيف التهكم على السواد الأعظم من البشرية ونعتها بالسذاجة ، التخلف والحماقة لتدينها و إيمانها بالمقدس .
الواضح أن للبشر منافع جمة من الدين وإلا لتخلوا عنه منذ قرون .
فلندخل في لب الموضوع ونعدد هذه المنافع الجليلة ، للسواد الأعظم من البشرية المتدينة .
المنفعة العظمى أو أم المنافع ، حسب رأيي ، هي استغناء الإنسان عن مشقة التفكير ، عن مشاكل الشك و عن ألم عدم اليقين . تصور حال إنسان يشك في كل شيء ! لا يقبل بمسلمة ، حتى إن قبل بحقيقة واضحة فإلى حين و بنسبية فقط . تصور حال إنسان يعلم القليل و يجهل الكثير . الأهم من ذلك وعيه التام بمقدار جهله الضخم . وعيه هذا سيجبره على التفكير و البحث و التمحيص و السؤال و التنقيب و الشك . الإنسان الذي يعرف الكثير ويجهل القليل أسعد بكثير ! يعلم علماً مطلقاً بمصدر الكون ، طريق السعادة ، معنى الوجود ، الموت ، الزواج ، العدل ، تنوع المخلوقات ، الكواكب ألخ .
الكائن الكثير العلم لا يحتاج إلى الكثير من الجهد ، البحث والسؤال . فهو يعلم كل شيء ، أو يتخيل له أنه يعلم كل شيء . فهو يعيش في غبطة وسعادة يحسدهما عليه الإنسان الواعي بجهله وقصره أشد الحسد . المتدين لا يحتاج للتفكير والشك بل فقط للتذكر أو التصفح في الكتاب المقدس . إن جالسته وسألته فلن يفسر لك أو يسرد آراء مختلفة ، في بعض الأحيان متناقضة، بخصوص نفس الموضوع ، لتترك مجلسه بحيرة أعظم ، بل يسرد لك أحكاماً ثابتة من إنتاج بشر يكبرونه آلاف السنين . ينهي شكك وينير عقلك بأحكام ثابتة ، لا تقبل الشك ، النقاش أو الريبة . ستترك مجلسه معافاً ، مستنيراً سعيداً ، ثابة القرار و الوجهة .
الخدمة الثانية ، الجليلة للدين هي وظيفته التوجيهية و التنظيمية للفرد و للمجتمع . حسب رأيي فإن الإنسان خلق الدين أساساً لتنظيم حياة المجموعة حتى يتمكن أفرادها من العيش في سلام أو في قدر أدنى من الوفاق يضمن استمرارية المجموعة . فالإنسان يدرك جيداً أنه أضعف كائن على وجه البسيطة وأنه لن يسلم إلا في حضن الجماعة . العيش مع الآخرين يفرض التقيد بقوانين وقيم ، بأخلاق . الدين هو مصدر هذه القيم التي بدورها هي مصدر للقوانين التي تنظم المعاملات و التواصل بين أفراد تختلف مصالحهم و أهواؤهم كما تتعارض في الكثير من الأحيان . هذه الوظيفة تؤديها الدساتير ،، الوضعية،، أيضاً لكن الدين يختلف عنها في نقطتين مهمتين ألا وهما القداسة و الشمولية الزمانية كما المكانية .
الأحكام الدينية لا تقبل النقاش و الجدل. هي مقدسة . هذا يسهل التعامل . فالمشرع يعلم جيداً الأحكام . فهو ،،رضعها مع الحليب،، و لا يحتاج إلى تحديث معلوماته، فهي ثابتة ، لا تتغير . الفرد يعلم جيداً الحرام من الحلال ولا يحتاج للإيضاح إلا لمعرفة التفاصيل . الإنسان الغير المتدين ، في مجتمع غير متدين ، يحتاج إلى الخبراء ، الذين يتوجب عليهم دائماً مراعاة والإطلاع على الأحكام الجديدة التي تتناقض أحياناً كليا مع أحكام السنة الفارطة .
القوانين الدينية تراقبك دائماً ، في سرك وجهرك ، حتى في أحلامك ،لذلك تستغفر عند الإستيقاظ من أحلام آثمة . الدين يتبعك أينما كنت ، على عكس القوانين ،، الوضعية ،، فهذه الأخيرة تتغير مع الجوغرافيا . فأنت تستطيع مضاجعة الإناث ، لعب الميسر و استهلاك الحشيش في هولندا بينما سترجم على العلن إن فعلت ذلك في بلدان أخرى !
الدين يمكنك من الغوص في عالم ثان لا يفقهه الغير المتدين ألا وهو عالم اللامعقول ، الخارق للعادة ، اللامحسوس . فالإنسان العلمي يكتفي على الأقل بأثر شيء ما لم يستطع التثبت فيه بحواسه لصغره أو لبعده كالذرة مثلا . أما المتدين فهو يسبح دون حدود في عالم الجن ، الملائكة ، الشياطين ، الجنة و النار ، السحرة ، البعث ألخ هذا ليس تهكما بل سرد لفوارق بين عالمين جد مختلفين . الملائكة ، الجن ...ممنوعة عن حواسنا و أجهزتنا الحديثة كما كانت البكتيريا قديماً . ولكن ليس هذا هو الموضوع !!
الدين يقدم للحائر أطروحة متكاملة تجيب عن كل الأسئلة العميقة و الوجدانية . لا يترك ثغرات أو نقاط استفهام . الأصل بين والهدف بين . يبين مما خلقت ، لم خلقت ، من خلقك وما هو مصيرك بعد الموت .
الدين يقضي على الموت . فهو ليس النهاية . لا وجود للنهاية . الدين يهديك الخلود !! الإنسان يهدي لنفسه أثمن ما يمكن أن يطمح إليه : الخلود .و يزيل عنه أقبح مصير : الزوال . وللخلود أوجه عديدة كالبعث ، استنساخ الأرواح ألخ
الدين ينظم يومك ، وقتك ودربك فتقام الإحتفالات كما الطقوس الدينية، لكن هذا ليس بحصر على الدين .
كل الفوائد التي سردتها تفضي إلى الإستنتاج : إن كنت ترغب في السعادة وراحة البال فتدين وإن كنت ترغب في الحيرة ، الشك ، الشقاء ، التعب و وجع الدماغ فلا تعر أي اهتمام للدين . ما عدى إن كنت تجد متعة في الحيرة ، الشك ، السؤال كما لا تخاف الموت و الزوال .