تجليات الغياب وإشارات الفقد
قراءة في قصيدة " توق"، للشّاعر التّونسي رضا السّبوعي.
- النّصّ:
سألتها كيف؟
أجابت لماذا؟
فقلت غيابك!
فقالت وماذا؟
شحوب بوجهي .. جفوني مراضا .. ونبض تسارع ..
وأصرخ هلّا من الفقد ملاذا ؟
يجيبني دمع تناثر رذاذا:
فللفقد قوم شداد غلاظا ..
وأنت هناك تجوب الفيافي ..
وتنشد وصلا في وزن القوافي ..
فيوما تصلك وألفا تجافي ..
فتذكر .. وتشعر .. وتؤمن وتكفر!!
وتسألني كيف؟؟
حالا أجيب:
خذ الآه منك بحرّ الجمر ..
وانقعها في عرق تدلّى عليك ..
إبان قالت إليك أحبك ..
ستتمثل من دخان آهتك
فاسحبها إلى رئتيك .. واكتم انفاسك
فموتك فيها حياتك ..
- القراءة:
يرسم الشّاعر رضا السّبوعي في هذه القصيدة اللّطيفة لوحة تعكس عمق المشاعر الّتي يجسّدها الفقد. ويفتتح نصّه بحواريّة تتّسم بالغموض ظاهريّاً، إلّا أنّها تحجب بين سطورها عمقاً فريداً ومتميّزاً، يشدّ القارئ لاستكمال القراءة كيما يتبيّن نتيجة هذا الحوار القائم بين عاشقين.
سألتها كيف؟
أجابت لماذا؟
فقلت غيابك!
فقالت وماذا؟
لكنّ الحوار بين هذين العاشقين يتوقّف عند الجواب: " شحوب بوجهي .. جفوني مراضا .. ونبض تسارع ..". لينتقل إلى حوار شخصيّ تأمّليّ يعبّر عنه الشّاعر بأسى ولوعة. فيتشكّل عالم الشّاعر الحقيقيّ، عالم الحزن، والألم، والشّوق، واللّهفة. وأمّا الجواب الأوّل على السّؤال: " كيف؟"، " أجابت لماذا؟"، فليس إلّا استكمالاً شاعريّاً لحالة قائمة بين عاشقين افترقا، أو غاب أحدهما عن الآخر. وهنا يُدخلنا الشّاعر في الحالة الشّعريّة، مستدعيّاً دهشتنا في الجواب النّهائيّ: " شحوب بوجهي .. جفوني مراضا .. ونبض تسارع ..". وهو نهائيّ لأنّه أنهى الحوار بين العاشقين، وكأنّ الطّرف الّذي قرّر الغياب غير مكترث بألم الشّاعر. ويتبيّن لنا هذا الأمر، وتنكشف لنا الّلامبلاة من خلال انتقال الشّاعر إلى الحالة التّأمّليّة الذّاتيّة، المتجليّة في قوله:
وأصرخ هلّا من الفقد ملاذا ؟
يجيبني دمع تناثر رذاذا:
تعبّر هذه الصّرخة عن الكثير من الألم والأسى المختزنين في قلب الشّاعر، فيتفجّران دمعاً وافراً يخفّف من الحيرة الشّاعريّة والارتباك القلبيّ: " فللفقد قوم شداد غلاظا .. وكأنّي بالشّاعر يعتبر الفقد لفيفاً فظّاً خالياً من أيّ رحمة أو رأفة. وهو كذلك بطبيعة الحال، لكنّ الشّاعر، وبخياله الإبداعيّ، وشخصنة الدّمع، يصوّر للقارئ قسوة المشهد، وثقل الفقد، وعبء الخسارة، فيحرّك قلبه ومشاعره دون أن يستدعي شفقته. وهنا يكمن العمل الإبداعيّ، إذ إنّ الكلام عن الألم والأسى لا يدخل في إطار الابتذال أو التّكرار الّذي اعتدنا أن نقرأه عن هذا الموضوع. فالكاتب يرتقي بالقارئ إلى مستوى المشاعر الرّاقية، ولا ينحدر به إلى مستوى القراءة الهشّة والسّطحيّة الّتي يمرّ عليها القارئ مرور الكرام، فيحزن ولا يتأثّر، ويأسف ولا يتأمّل، ويذكر حالة مشابهة ولا يتأمّل.
يرتحل الشّاعر عميقاً في نفسه ويجوب دواخلها كالتّائه في صحراء واسعة، يبحث بشوق متأجّج، ولهفة مضطرمة، ولكنّنا ما زلنا نشهد حنيناً يعصر قلبه فلا يطيب وجعه ولا يرويه لقاء:
وأنت هناك تجوب الفيافي ..
وتنشد وصلا في وزن القوافي ..
فيوما تصلك وألفا تجافي ..
فتذكر .. وتشعر .. وتؤمن وتكفر!!
يُغرق الشّوق المؤلم الشّاعر في حالة وجدانيّة تجسّد الحالة الإنسانيّة المتألّمة نتيجة الفقدان، فنرى العاشق الولهان، المتحيّر والمرتبك. تشدّه الذّكرى من ناحية، ومن ناحية أخرى يأسره الحضور وكأنّ الحبيب لم يغب. ثمّ يعود ليدخل في جدليّة الإيمان والكفر، وكأنّي به يستجدي الله من جهة، ومن جهة أخرى يلومه ويعاتبه، بل يستبعده.
" وتسألني كيف؟؟" يبيّن لنا تساؤل الدّمع حالة إصغاء تام من قبل الشّاعر، تستتبعه إجابة تحمل القارئ إلى عالم الوجدان السّاحر، والشّوق الرّاقي، والألم المترفّع عن الحزن العابر:
حالا أجيب:
خذ الآه منك بحرّ الجمر ..
وانقعها في عرق تدلّى عليك ..
إبان قالت إليك أحبك ..
ستتمثل من دخان آهتك
فاسحبها إلى رئتيك .. واكتم أنفاسك
فموتك فيها حياتك ..
الواقع الحقيقيّ كلمة: أحبك. تلك هي رؤية الشّاعر وعالمه بل حياته القائمة من موت الألم. إنّه الحلم الّذي يراه ويحياه. هو ذلك الواقع غير المرتبط بما يُظنّ الحقيقة. لعلّ هذا المقطع الشّعريّ يحمل في حناياه صوفيّة تمتاز بمزج واقع الموت بحقيقة الحياة. فيهيم الشّاعر في سرّ الحياة الحقيقيّة، غير تلك الّتي نحياها على الهامش. ويدخل سرّ الموت حبّاً ليحيا بكرامة الحبّ.
وبانتقاله من حالة الألم الجسدي (شحوب بوجهي .. جفوني مراضا .. ونبض تسارع)، إلى حالة الألم الكيانيّ، يهيم بنا الشّاعر في سماء الحبّ الحقيقيّ، حيث الألم رفعة، والشّوق غذاء الحبّ، واللّقاء حتميّ في عمق الكيان الإنسانيّ، والحبيب حاضر في النّفس رغم الغياب، وجليّ للبصر والبصيرة رغم احتجابه.