الطريق إلى داعش .. والغبراء!
قال المتحدث باسم "بوكو حرام" إن كل أفعال جماعته منصوص عليها في القرآن والسنة. "أتحدى من سيجادلني في ذلك" أضاف بثقة. مؤخراً اختطفت بوكو حرام مئات الفتيات وقررت بيعهن. بحسب تقارير صحيفة "أجبر بعضهن على الزواج من أفراد الجماعة". في العادة، بحسب كتب التاريخ، كانت الشعوب تنتظر قدوم الإسلام، إذ أنه كان يحررها من الخوف. وكان هذا امتيازه الأهم.
لزمن طويل لم تزد نسبة المسلمين في مصر عن 20%. كانت مصر تدار، عملياً، من قبل مجالس بلدية يشترك فيها المسلمون والمسيحيون بحسب الكفاءة. كان الحديث يدور، منذ عمرو بن العاص، عن الإدارة. مع تقدم التاريخ ظهر الحديث عن الشريعة بدلاً عن الإدارة، وعن الحاكمية الإلهية عوضاً عن الإبداع. هكذا أصبحت الشعوب نفسها تتوجس خيفة من الإسلام. لم يعد يقدم بوصفه مشروعاً عالمياً للتحرير. بل حزمة إلهية صامتة مهمتها أن تنتصر وتخضع الآخرين لفلسفتها ونواميسها. لم يعد الآخرون يقرؤون في الأدبيات الإسلامية "لا تخرجوا أسقفاً من أسقفيته" بل أحاديث الاستتابة، والاستعلاء، فضلاً عن المشروعات السياسية الإسلامية. هوى الإسلام، كما التاريخ الإسلامي الممتد من الفن حتى الحرب ومن الغناء حتى الكيمياء ومن الترجمة حتى طواسين الحلاج، وأصبح شيئاً آخر، شديد الضآلة. لقد آضَ برنامجاً انتخابياً أحادي البعد، بلا ملامح، ولا جاذبية، ولا تاريخ.
لم تتوقف الانزياحات العميقة، الهيكلية، عند هذا الحد. صار لدينا نسخاً عديدة من الإسلام، ليست فقط مختلفة بل شديدة التناقض. وفي كل نسخة هناك دائماً الفرقة الناجية، وأهل النار. كما هناك، على الدوام، واجب أخلاقي تاريخي يفرض على المؤمنين بكل نسخة عمل كل ما ينبغي ضد الآخرين الذين يسعون بطريقة ما للنيل منها، أي من الإسلام. تلتقي مركزياً كل تلك النسخ العديدة عند نقطة جوهرية: المشروع السياسي. في المعنى العميق لكل هذه الإسلامات لا يظهر الرسول كعربي يحمل السيف بحثاً عن الرزق، كما يقول حديث البخاري، بل بحثاً عن السلطة.
خضع الإسلام نفسه لتحول بنيوي عميق، وتحولات هيكلية شاملة. لقد اختفى حديث إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق. عوضاً عن ذلك تقدم حديث "بعثت بين يدي الساعة بالسيف، وجعل رزقي تحت سن رمحي". الحديثان عند البخاري نفسه، لذا لم يجرؤ أحد على القول إنه من غير المعقول إن يكون النبي قد تحدث عن الإسلام بوصفه "جماعة مسلحة تستخدم السيف لأجل الحصول على الرزق!" كما يقول حديث البخار.
من الواضح إن بوكو حرام تعي هذا الحديث، وتجده فيه سنداً أخلاقياً لفعلها.
في العام 1905 مات الإمام محمد عبده. بعد ستين عاماً سيموت سيد قطب. الأجيال الجديدة من الإسلاميين تعرف أكثر من اللازم عن قطب، ولا تعرف شيئاً، بالمرة، عن محمد عبده. كان قطب، مثل بوكو حرام، يستند كلّياً إلى أحاديث "الرزق تحت سن الرمح". لكن محمد عبده طور منهجاً نقدياً شاملاً للتعامل مع الموروث النصوصي الإسلامي، أسماه الهدايات الأربع: العقل والنقل والتجربة والوجدان. وكان المثقف الوحيد الذي أدخل دالة "الوجدان" ضمن الدوال النقدية الحاسمة في مقاربة التراث الإسلامي. وكان وجدانه، بكل تأكيد، يرفض الأحاديث التي تقول إن الرسول كان شخصاً بعثه الله بالسيف ليحصل على رزقه.
عندما يحاول محمد عماره، الموسوعي، أن يشرح ورطة سيد قطب فإنه يقول إن قطب تأثر بالمودودي في طرحه لفكرة الجماعة المؤمنة والمجتمع الجاهلي. وبينما كان المودودي يعيش داخل جماعة "مسلمة" محاطة من كل الجوانب بالهندوس والحركات القومية الهندوسية فإن سيد قطب كان يعيش في مجتمع مسلم متسامح مع الأقليات المسيحية التي تعيش بهويتها العربية. ولم يكن هناك من هندوس في الخارج. لذا فالمجتمع الجاهلي بالنسبة للمودودي كان هو المجتمع الهندوسي، أما بالنسبة لسيد قطب فلم يكن سوى المجتمع المصري.
غرق سيد قطب في ورطته وكان يعتقد أنه باكتشافه لمصطلح "الحاكمية" قد عثر على شيء ثمين. ثمة مقارنة مذهلة يمكن أن تضيء الطريق الذي سلكه قطب، ذلك الذي افتتحه بفكرة الحاكمية. فعندما يتحدث حسن البنا، مؤسس الإخوان، عن الشعب المصري فهو يقول إن الأسماء الإسلامية، الطقوس الإسلامية، والمشاعر الإسلامية، كلها تدل على إن الإسلام عميق في نفس ووجدان المجتمع المصري. جاء قطب، فغير القاعدة الذهبية. تجاهل ما كتبه البنا، وبدلاً عن ذلك كتب: كل تلك المشاعر الإسلامية والطقوس الإسلامية والأسماء الإسلامية لا تنفي حقيقة أن هذا المجتمع جاهلي!
ثم يعود أكثر من مرّة ليشرح معنى الجاهلية. فهي ليست العدمية الحضارية، كما يذهب محمد الجابري. بل الوثنية. لم يعثر قطب على الأوثان، فاستخدم آلته النقدية للقول إن المجتمع المصري وقع في الوثنية والشرك، وبدلاً عن الأوثان فإنه سقط مجدداً في عبادة الأقوياء من البشر. وبدلاً عن أن يفكر قطب في شرح دالة التحرير التي يقوم عليها الإسلام فإنه سلك وادياً آخر. جلد المجتمع وبصق في وجهه، ثم أهاله عليه التراب ومات.
كان سيد مثقفاً، ومبدعاً فشل في إنجاز أعمال أدبية كبيرة، الأمر الذي أصابه،كما يحدث مع أي مثقف طموح، بقدر كبير من الغضب وفقدان الاتزان. أنجز ديواناً وحيداً "الشاطئ المجهول" ورواية يتيمة "أشواك" وكتاباً مدرسياً في النقد الأدبي. هذه الأعمال الثلاثة لم تفصح عن مبدع كبير. كانت أعمالاً أدبية بسيطة للغاية، إذ ما قورنت بأعمال مجايليه عربياً وعالمياً. أنجز رواية أشواك في الفترة التي كان فيها جورج أورويل يكتب "1984" و توماس مان "البجعة السوداء" وهمنيغواي "وداعاً للسلاح" وبوسترناك "دكتور زيفاغو". وعندما انتهى جبران خليل جبران من كتابه الأهم "النبي" كتب قطب ديوانه منخفض القيمة الفنية "الشاطئ المجهول"...
هذه الخلفية الفنية لقطب يمكنها شرح انتقاله العنيف إلى "الشاطئ المجهول". على المستوى الفنّي كتب إن شعر العقّاد يمثل مستويات غير مسبوقة في النضج الفني. كان مارون عبّود، الناقد، يكتب عن العقاد: شعره خرابيش دجاج. انتقل قطب فجأة إلى عربة مختلفة كليّاً، وكتب عن العقاد كلاماً جديداً قال فيه إنه لا يكاد يجد قيمة فنّية أو أخلاقية في شعر العقاد. هكذا بدأ سيد قطب ينسف كل شيء، ليس فقط شاعره المفضل "العقاد" بل المجتمع إجمالاً. في العام 2004 قال عبد المنعم أبو الفتوح، في زيارته لنجيب محفوظ، إن كتابات قطب كانت كتابات رجل مريض.
لكن قطب لم يكتب "أوراق الغرفة الثامنة" كما فعل أمل دنقل في مرضة، ولا "العنبر رقم 6" كما فعل تشيخوف. لقد كتب أموراً أخرى. هي تلك الأمور التي أخرجت داعش وبوكو حرام من العدم. لقد اكتشف قطب، وآخرون، تلك الفتائل المشتعلة التي دست في التاريخ الإسلامي، ودل عليها.
يفاخر السلفيون بعبارة مكثفة لمستشرق لا يعرفونه قال فيها إن "محمد عبد الوهاب" فجّر الكثير من الألغام الإسلامية المدفونة، ولا يزال هناك المزيد منها.
بالفعل، فلا يزال هناك الكثير من الألغام، والكثير من المفجّرين. ففي تقرير حديث للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، واشنطن، جاء إن عدد 75 ألف شخصاً قتلوا في العام 2013 في الجغرافيا المممتدة ما بين المغرب وباكستان. وأن أسباب القتل كانت في الأساس: الصراع حول المذهب، وحول السلطة..
ملحوظة:
وقعت الليلة، عن طريق الصدفة المحضة، على وصايا مفجري 11 سبتمبر. كانت المفاجأة بالنسبة لي أن عبارات كاملة من كتابات سيد قطب وردت في وصايا انتحاريي القاعدة في تلك العملية الأكثر رعباً..