دعوا عدن للعدنيين !!
إذا رضخت الصفحات لرغبتي وطاوعني قلمي لأكتب عنها , فحتما ستخذلني لغتي وسيثكل لساني, ليس لانها لا تستحق أن أكتب عنها ولكن لأنها أبلغ من كلماتي وأعظم من وصف حروفي ودموع قلمي..
أدرك هذا تماما وأدرك عجزي أمام تلك المدينة الساحرة الوادعة التي سبت الألباب وسحرت العقول وملكت القلوب, ومع هذا فما بداخلي يجبرني أن أكتب حتى وان كانت كلماتي مجرد كلمات وحبر أنبجس على سطور الصفحات..
وحين أقول أنها أكبر من كلماتي وأعظم من حروفي فأنا أعني ذلك جيدا وأدرك ما أقول ولكن كان لابد من أن أكتب ما يجيش في صدري ويعتمل بين ثنايا روحي عليّ أوصل كلماتي لمن به صمم وأسبر أغوار أولئك الذي أغلقوا على أنفسهم أبواب الظلمة والجهالة واكتفوا بأن سكنوا بين جوانحها دون أن يشعروا بذلك اللهيب الذي تكتوي به وهي تتحسر وتتوجع حزنا على ما حل بها وما يعانيه أهلها من ويلات وظلم وضيم ومعاناة تذوب منها الجبال..
عدن قبلة الزائرين وملهمة الشعراء والمثقفين ومتنفس المكلومين والمهمومين وغرة العين لكل من أراد أن يرى الجمال الحقيقي في عالم قل فيه الجمال وساد فيه القبح وسوى المنظر وتقلب الحال واضطراب الأحوال وبات الاستقرار على حال من المحال..
ومع أنها كانت الهوى والسكن لكل من ظل الطريق أو تقطعت به السبل , مع أنها العشق والهوى لكل من أراد أن يعيش الحب الحقيقي بكل فصوله الصادقة والمخلصة , ومع أنها من تهفوا لها الأسماع وتشتاق لرؤيتها الأحداق وتحن لوصالها القلوب وتتمنى عناق شواطئها وحدائقها الأرواح إلا أنها ضاقت ذرعا من ذاتها ومن ما حل بها ويحدث وبعد أن تنكر لها من آوتهم وأسكنتهم بين جنباتها وأرضعتهم من حليب الدافئ وتناسوا أنها كانت لهم الأم الرحيمة والصدر الحنون والكف الناعمة..
إذن فمن سيشعر بألمها من سيطبب جراحها ويسمح دمعاتها؟ سؤال عاجز يترنح في شوارع المعاناة يبحث عن ملاذ يرتمي فيه ويتخلص من عناء البحث المضني من أفواه العاجزين والمتخاذلين الذين قدمت لهم عدن الورود ورموها بالأشواك والحجارة وغرسوا خناجر غدرهم في ظهرها وسفكوا دماء أهلها..
الإجابات تختفي خلف أسوار الحياء وفي باطن المدينة العذراء وتخشى أن تجرح أولئك الذين تحاول جاهدة هي أن تترفع عن أذيتهم ولفظهم رغم أنهم لم يعترفوا لها قط بصنيع ولم يحملوا لها قط جميل ولم يتذكروا لها يوما معروف, وفي صمت الإجابات والحياء الذي تتصف به هي يكاد المكان والكون بأجمعه أن يقول ( دعوا عدن للعدنيين ) فهم أرأف بها وأحن عليه, وهم من سيشعرون بمعاناتها وأنين دواخلها..
هم أهلها , فلذات كبدها , قرة عينها , هم أخلص الناس لتربتها ,لهوائها ,لمائها .. هم من تمرقوا في تربتها وجالوا في أزقتها واحتضنوا أشجارها , شواطئها وكل مكان فيها..
أقولها واعلم أنها ربما تجر لي الويل والثبور وعظائم الأمور ووقاحات الألسن وبذاءتها التي لا تحتمل ولاتطاق وربما الظنون السيئة والتجريح بكل ( فنون ) وأساليب الفن السوقي الرخيص.. ولكن حسبي أنها كلمات تنبع من جوفي المترع والموجوع على ( عدن ) التي (بدلوها ) .. ( غيروها ) .. قتلوا براءتها .. هتكوا عذريتها .. استباحوا دمائها .. أقلقوا سكينتها ..لوثوا هوائها.. شوهوا صورتها .. مزجوا قذاراتهم وأوساخهم بملوحة ( بحرها ) الهادئ..
أقول لكم جميعا ( دعوا عدن للعدنيين ) .. دعوهم لإنسانيتهم ,. لبساطتهم , لبراءتهم , لطيبتهم , لحسن تعاملهم.. ورقي إنسانيتهم وتحضر حياتهم .. دعوها لهم فهم الين قلوبا وأرق أفئدة.. وهم وحدهم من سيطببونها .. سيداوونها .. سيمسحون دمعاتها .. هم وحدهم من سيعمرونها .. سيعيدون جمالها .. رقتها .. حيوتها .. نشاطها .. نقائها .. عذريتها .. بساطتها .. أمنها .. أمانها .. وكل شيء سلبته منها أيادي العبث والفوضى ( والهمجية )..
دعوها لا تقحموها في سياساتكم .. وفي مناكفاتكم .. في مكايداتكم .. دعوها لهم ولا تجعلوا منها ساحة نزاع وتصفية حسابات وأرضا تسفك فيها الدماء , وتزهق فيها الأرواح ..وتتناثر فيها الأجساد .. وتتنافر فيها القلوب , وتتعاظم فيها لأحقاد ..
دعوها فقط تعانق أبناءها .. تحتضنهم في ليلها بهدوء وسكينه وتودعهم في نهارها بأمان واطمئنان .. دعوها تعزف لهم على أوتار المحبة أنغام العشق الذي لا ينتهي وتعيد لهم ( زمان ) الطهر والنقاء والعفة والبراءة .. بعيدا عن الخباثة ولعنة السياسية وأطماع النافذين وأحقاد الحاقدين ..
دعوها لهم تشكوا ما بها من أوجاع وأسقام وآلام وأحزان وهم وحدهم سيسبرون أغوار حزنها وسيذيبون جبال ألمها..
دعوها ولنذهب جميعا بأحقادنا .. ومشاكلنا .. وهمجيتنا إلى البعيد حيث يجب أن تكون .. لتهدا عدن وتعود لمجدها الغابر وأيامها الجميلة وعفويتها وبساطتها.. فما عادت تحتمل المزيد من الجراحات والأوجاع والهموم والأحزان ..