الصابئة المندائيين الاقلية المهاجرة جبراً من العراق
رائحة الآس.. هوامش وحقائق رحيل الذكريات..
ربما البرد هو من اقتادني لولوج اقرب محل على ناصية الطريق.. كانت درجة الحرارة انخفضت الى ما دون 12 درجة مئوية تحت الصفر في العاصمة السويدية استوكهولم، كنت اسير مع احد الاصدقاء العراقيين المقيمين بالسويد فدلفنا نحو محل للساعات والمجوهرات الفاخرة.. قلت لصاحبي يالها من مصادفة فأنا ابحث عن هدية نسائية احملها معي عند العودة للعراق.. يالها من فكرة ان تكون ساعة نسائية.. ولكن اخشى ان اسعار هذه المحل ستكون مرتفعة جدا بحيث لن تتناسب مع ميزانية صحفي بزيارة عمل الى السويد كحالي الان، فرد صديقي اعتقد انك ربما ستجد ساعة مناسبة هنا وليست غالية جدا.. ثم ضحك وليست بسعر معقول ايضاً، وبطبيعة الحال فنقاشنا هذا كان بلهجتنا العراقية.. ففوجئت بشاب انيق يقترب منا ليخاطبنا بعربية بلهجية عراقية واضحة قائلاً: انتما عراقيان؟ قلنا نعم.. فمد يده مصافحاً وعرف نفسه بأنه صاحب هذا المحل.. مردفاً بأنه وصل السويد قبل عامين وبالمناسبة فهذا الحدث يعود لآيلول من العام 2009، قال انه ترك العراق وهاهو يستقر بالسويد ويزاول نفس مهنته الام صياغة المجوهرات الذهبية، فسأله صاحبي وما الذي دفعك لمغادرة العراق.. فرد متأثراً لقد تعرضت للتهديد بالقتل لآنني (صابئي) وهاجرت مكرهاً.. مردفاً انه كان يسكن احدى مناطق بغداد الراقية الجميلة التي يشتاق لها، فقاطعته قائلاً (السيدية) فأستفسرت ملامح وجهه ولسان حاله يقول (كيف عرفت؟) وقبل ان ينبز بكلمة.. تابعت حديثي قائلاً.. لآنني من سكان منطقة السيدية واعلم انها تضم العديد من الصابئة المندائيين ومعظمهم يعملون بالصياغة.. كما انني اجبرت على مغادرة السيدية عام 2006 بسبب ان الارهاب سيطر على هذه المنطقة الجميلة وشوهها بالقتل الفضيع والتفجيرات المستمرة.. فزاد ترحيبه وتبادلنا الاسئلة حول مواقع منازلنا بالمنطقة الكبيرة وعن الاصدقاء المشتركين .. وانتهى بي المطاف وقد خرجت نصف مبتسم نص حزين.
فنصف الابتسامة كان لسعادتي بالمصادفة الجميلة وللساعة النسائية الفاخرة ماركة (Charles Delon) وبسعر معقول التي ساعدني الصائغ الصابئي الشاب على انتقائها وشراءها لآتخلص من عبىء الهدية واتفرغ لعملي الصحفي الذي انا من اجله هنا.
اما نصفي الحزين فقد سببه ذلك الزخم من الذكريات التي اعادتها لي قصة هذا الرجل.. الشوق لمنطقتي التي غادرتها وعلى الرغم من انه غادرها مهاجراً وانا غادرتها منتقلاً لمنطقة اقل عنفاً واكثر امناً داخل بغداد حينذاك.. الا ان الحياة كانت قاسية او بعبارة ادق لا تطاق.. وربما لن يفهم معنى الحياة وسط مدينة تتقاتل اهلياً الا من يمر بهكذا تجربة مريرة وخاصة عندما يكون ليس طرفاً بأي صراع او ليس يتبع لأي جماعة.. عندها سيكون مستهدف من الجميع يال السخرية عندما يتحول الصحفي المستقل هدفاً للمتقاتلين!.. الحزن الذي انتابني كان لذكريات ربما ابعد ايضاً.. لقد عدت الى الطفولة، لأصدقاء الطفولة الاولى.. كنا ثلاثة انا وعمار وياسين.. جيران نسكن في ذات الزقاق عمار الذي كنا انا واياه بمرحلة دراسية واحدة وبفصل دراسي واحد هاجر العراق مع اسرته المسيحية في سن الحادية عشرة الى الولايات المتحدة / ديترويت وانقطعت اخباره منذ ذلك الحين.. اما ياسين فكان يصغرنا بعام واحد.. هاجرت اسرته الصابئية بسن الثانية عشر الى استراليا وقبل الوصول وببلدان الانتظار سرق سماسرة تهريب البشر المهاجرين اموالهم واجبروا على العودة بعد ان خسروا اموالهم التي كانوا يأملون ان يبدأون بها حياة جديدة بعد ما اصاب العراق من توقف بالحياة اجبرتهم على الهجرة.. وعاد ياسين وعائلته وما لبثوا حتى غادروا العراق مرة اخرى بعيد العام 2003 الى السويد هذه المرة وايضاً انقطعت اخباره من ذلك الحين.
ربما هذان الشخصان كانا صديقا الطفولة الاقرب.. ولكن ان اردت احصاء الاصدقاء والجيران ممن هاجروا العراق منذ اواسط تسعينيات القرن الماضي حتى اليوم ستطول القائمة كثيراً، ولعل الاكثر فيهم من الصابئة المندائيين.. الذين كانوا يعيشون بيننا بمنطقة السيدية بكثرة كبيرة.. لم يبقى منهم الا قلة قليلة لقد هاجروا جميعاً.. ان البيت الذي يجاور بيتنا بقي مسكون من عائلتين صابئيتين متتاليتين منذ ولادتي حتى بلوغي الخامسة عشرة ولكنهما هاجرا فالعائلة الاولى غادرت عام 1992 الى هولندا.. والعائلة الثانية هاجرت عام 1998 الى كندا.. لازلت اذكر تلك الجلسات بيني وبين ابنائهم وبناتهم وتلك الصحبة الجميلة التي الفناها كأطفال لا يشعرون بحجم ما يحدث حولهم وما يجبر اهاليهم لمغادرة البلاد للهجرة لطريق اللا عودة.. لازلت اتذكر حفلات اعراسهم وطقوس عقد قرانهم المائية الخالصة بمعبدهم الديني (المندي) على اطراف دجلة بمنطقة القادسية القريبة من مساكننا بالسيدية.. وشواءهم الدائم للسمك اكلتهم المفضلة.. رائحة شجر الآس البهية في حدائقهم لازالت تعبق بأنفي.. لازلت اتذكر ذلك الهووس الذي لدى شبابهم ورجالهم بكرة القدم.. محال المجوهرات التي كانوا يمتلكونها ومعامل صناعة الذهب بشارع النهر العريق ببغداد.. عقولهم المميزة بعلم الرياضيات والفيزياء.. كان معظمهم مهندسين اما البنات الجميلات اما البيض بنصاعة او السمراوات فكان العديد منهن طبيبات.
اكتب الان وكلنا اصبحنا خارج العراق.. لقد غادرنا هذا البلد تباعاً.. الا ان العديد لا يعلم عن حجم الهجرة الجماعية الكبيرة للصابئة المندائين اولئك العراقيين الاصليين سكان منابع الانهار بجنوب العراق بديانتهم القديمة.. ربما لآن العديد لم يسمعوا بهم بالمرة.
الصابئة المندائيون..
الصابئة المندائيون هم اقلية دينية يبلغ عدد اعضائها حوالي 70 الف شخص (ربما اكثر ربما اقل) حول العالم، جذورهم عراقية قديمة (ارامية) ويتصف معتقدهم الديني بالتوحيد الابراهيمي المقدم للاديان الثلاث الكبرى لاحقاً، كما تأثرت الصابئة المندائية كديانة بمعتقدات المحيط الجغرافي الذي نشأت فيه جنوب العراق قبل اكثر من عشرين قرن وصعوداً.
وترتبط ميثالوجيات الديانة بعقيدة النور والتطهر والتعميد بواسطة الماء الجاري.. مما جعل موطنهم الاصلي على ضفاف الانهار في العراق عند اقدس نهرين لديهم (دجلة والفرات) يعتبرون النبي (يحيى بن زكريا) نبيهم.. وكتابهم الديني (الكنزا ربا) وهي كلمة ارامية تعني (الكنز العظيم) .. مناطق انتشارهم عبر التاريخ كانت بجنوب العراق مدن (العمارة، الناصرية، والبصرة) وكذلك بمناطق الاهوار الشهيرة (مع عوائل بالمناطق المحيطة بالكويت وايران) وقد انتقل العديد من عوائلهم الى بغداد بمراحل عبر العقد الاول حتى العقد الثامن من القرن الماضي.. مسستوطنين مناطق بغداد القريبة من ضفاف دجلة كالسيدية والقادسية.
انغلاق الصابئة بالتزاوج فيما بينهم فقط حافظ على نقاء عرقهم الانثروبولوجي كشعب عراقي (ارامي) عريق.. وقد توزع الصابئة اليوم في العديد من دول المهجر حول العالم وخاصة بأمريكا وكندا واستراليا والسويد وهولندا.. وكونوا هنالك تجمعات اجتماعية وثقافية للحفاظ على تراثهم الثقافي ونقاء عرقهم.. ولازالت العربية عبر اللهجة العراقية بالسحنة الجنوبية الاخاذة والبسيطة هي لغتهم الاصلية اينما حلوا.. ولازالت الطيبة والبساطة والابتسام هي سماتهم اينما تقابلهم..
التمييز.. مراحل وشجون..
الباحث او المستقصي عن واقع التمييز الذي تعرض له الصابئة المندائيون في العقود الاخيرة.. سيكتشف حقائق مثيرة ومحزنة.. لقد تسبب التمييز في هجراتهم الجماعية من مناطق العراق.. حتى وصل من تبقى منهم داخل العراق موطنهم الاصلي حوالي 10 الاف شخص فقط اي سبع عددهم الاجمالي حول العالم، السياسي العراقي عبد فيصل السهلاني وفي حديث جرى بيننا عن مدينته الام الناصرية وبتذكره لحياة الناصرية قبل نصف قرن ذكر متألماً حول التمييز الذي عاناه الصابئة بمدينته: بأن الصابئة المندائين كان بعضهم يعمل بصناعة القوارب الخشبية للصيد واشار بأن صناع القوارب من الصابئة كانوا يحضرون معهم صحون واقداح فارغة خاصتهم.. ليقوم من يستأجرونهم من السكان المسلمين لصناعة قارب بأعطائهم الغداء بؤانيهم الخاصة.. لآنهم كانوا يدركون بأن السكان المسلمين لا يأكلون بصحن او يشربون بقدح استخدمه صابئي قبله! تحت هاجس النجاسة!، وبطبيعة الحال فأن هذه القصة لا يمكن ان يعلق عليها بالقول انها اقرب للخيال من التصديق.. بل هي حقيقية وللاسف هي حقيقية.. فقد واجه الصابئة المندائيون على واقعهم المسالم وجذورهم الاعمق والاقدم بالعراق.. تمييزا سلبياً دائماً بخلفية دينية.. عاملتهم بجفاء ضمني، وحتى سنين متأخرة قبل التغيير بالعراق عام 2003 كان الصابئة يتعرضون للتمييز والضغوطات المجتمعية بخلفية الدين.. وبما ان رجال الدين الاسلاميين يتحفظون على الاتهامات العلنية للاقليات الدينية او تقديم المبررات للتمييز ضدها.. يصعب التوصل لجذور هذه المواقف الغريبة واللا انسانية تجاه الصابئة المندائيون، اما ان حاولنا اكتشاف بعض الفوارق المعاصرة التي كان يتعكز عليها العديد ممن يتعاملون بنفور او يرفضون التعامل مع المندائيين.. فهم ينظرون بأن المندائيون لا يختنون صبيانهم كما هي الحال لدى ميثالوجيات اليهودية والاسلام بالتضحية القربانية التي باتت تسمى بالختان ولازالت الى اليوم عادة طقوسية احتفالية تشمل جميع الصبية.. ولعل احدى الاختلافات الاخرى بين الصابئة والمسلمين تكمن في طرق استهلاك الحيوانات المدجنة فالمسلمين يصرون على ضرورة الذبح الاسلامي للطيور في حين يستخدم الصابئة الخنق للطيور قبل طبخها واكلها.. ومن المهم الاشارة الى ان الصابئة يكثرون من السمك تيمناً بعقيدتهم المرتبطة بالمياه.. كما لا زلت اذكر العديد منهم ممن كانوا نباتيين تماماً.. احداهم ابنة جارنا التي لازلت اتذكر بياض بشرتها الجميل وذكائها المتقد.. كانت نباتية.
الجنوب العراقي كان معقلاً للنشاط الشيوعي في اواسط القرن الماضي والذي ضم العديد من الشباب والشابات من الصابئة المندائيين ومعظمهم ان لم يكن جميعهم من طلبة الجامعات او حملة الشهادات الجامعية او الشهادات العليا.. وخاصة مع اشتهار الصابئة بالذكاء بعلوم الرياضيات التي يعولها البعض لتغذيتهم التي تعتمد بشكل رئيسي على السمك الذي يعرف بغذاء الدماغ.. كما ان نقاء العرق قد يعمل على المحافظة على ذكاء متوارث.. وما ان انتهى الوفاق السياسي بين القوميين (حزب البعث) واليساريين (الشيوعيين) عام 1978 وزج الشيوعين السجون واعدم بعضهم وهرب اخرون الى خارج البلاد كانت اول معالم هجرة الصابئة من العراق.. نعم كانت البداية ليست بالضغط بل بالمطاردة الامنية لشيوعييهم.
هوس الحروب العبثية الذي قدمه شخص الرئيس الاسبق صدام حسين على حساب شعبه وشعوب المنطقة جعل العديد من العوائل العراقية تدفع بشبابها للهجرة من العراق بثمانينيات القرن الماضي ابان اندلاع الحرب العراقية – الايرانية بسنواتها الثمانية الطويلة.. وما تلاها من دخول الجيش العراقي للكويت وحرب العراق المدمرة مع المجتمع الدولي عام 1991.
الحصار الاقتصادي الذي فرض على العراق عام 1990 كان احد اهم النقاط المفصلية بواقع البلاد المعاصر.. حين انتقل الشعب سريعاً من الرخاء للمجاعة من الرفاهية النسبية الى الفاقة والقحط.. والعيش وسط تفشي الجريمة وتصاعد الخوف.. ولينتعش موسم الهجرات ويهرب ابناء الاقليات الذين شعروا بالرعب من عدم وجود من يحميهم من سطوة العنف والجريمة التي باتت تزداد طردياً مع ازدياد الفقر والجوع.
في العام 1994 وفي الطريق للوصول نحو اكبر تظخم مالي مر بالعراق المعاصر تحت ضربات الحصار الاقتصادي الموجعة.. اعلن صدام حسين عن بدأ حملة دينية بالمجتمع وبالمدارس الابتدائية والثانوية اطلق عليها تسمية (الحملة الايمانية) ومن الغريب ان صدام القومي الذي واجه التيارات الاسلامية واذاب كبار قياداتهم بأحواض الاسيد، وقتل الاف منهم.. اصبح لاحقاً مسلماً دعوياً مؤمناً!!.. وبطبيعة الحال فالتقصي لا يترك للموضوع من غرابة.. ان صدام وجد بأن تحويل المجتمع نحو (الدين) سيطوع شعب جائع ويهدأ من ثائرته.. ليغرق الجائع بأحلام موائد الجنة وليتناسى المطالبة بمائدة بحياته الحالية.. الحملة الايمانية زادت من تعقيد واقع الاقليات الدينية بالعراق، فعلى الرغم من ان تدريس الدين الاسلامي عبر مادة (التربية الاسلامية) اقدم من الحملة الايمانية الا ان الحملة الايمانية باتت تدرس القرأن وتشرحه وعبر اساتذة باتوا يرسلون من المدارس الدينية وكليات الشريعة وليس من المؤسسات التربوية.. لتبدأ حملة من التصعيد ضد الطلبة من الديانات الاخرى.. وليشتكي اولياء امورهم بأن هنالك ضغوط على ابنائهم لآعتناق الاسلام.. انتهت بأعفاء حكومي للطلبة من الاقليات الدينية من دخول حصة التربية الاسلامية.. ولازلت اتذكر صديقي المسيحي (عمار) عندما كان يغادر الفصل عند ابتداء فصل التربية الاسلامية متسكعاً في باحة المدرسة الداخلية ليعود بعد انتهاء الدرس لمقعده مستكملاً دراسته وانضار الطلبة والطالبات الصغار ترقبه ترى ما الذي يختلفه عنا؟ اهو مخلوق اخر؟ هل المسيحين اناس اخرين؟ ومن الطريف ان البعض كان يحسده لآنه معفى من هذا الدرس الصعب والممل والذي يخشى الجميع من الطلبة الصغار وصفه بالممل حتى لا تقع عليهم اللعنات الانتقامية الالهية القاسية التي ضخمها اساتذتهم حد الارعاب.. وبلا شك فأن الشروحات الدينية والتي عكس العديد منها تعصب الاساتذة بالتزامن مع نمو وازدهار التوجيه الديني عبر المساجد.. بالتالي بدأ يشكل جيل طلابي رافض للمغايرين من الاقليات الدينية الاخرى.. حتى كنا نرى بعض ضواهر التمييز بشكل صريح.. واذا كنت قد نشأت بمنطقة تصنف بالرقي وشهدت العديد من ظواهر التمييز ضد الاقليات الدينية.. فترى كيف الحال في المناطق الشعبية؟.
الا ان الصابئة او من تبقى منهم تعرضوا لآشد حملة من الايذاء بعد التغيير في عام 2003 هي الاكبر، فقد صادف تواجد مناطق سكناهم في مناطق متقاربة وراقية (مختلطة التكوينات الديمغرافية)، الا ان هذه المناطق المختلطة كانت هي الحلقات الاضعف عند نشوب الحرب الاهلية او الطائفية التي اندلعت بشكل موسع بين العاميين 2006 و 2007 فسرعان ما سيطرت التنظيمات المتقاتلة طائفياً على هذه المناطق الهادئة والمسالمة وابتزت السكان بالقتل والخطف مقابل البديل المالي او بالاستهداف لغرض التخويف والاجبار على المغادرة.. الصابئة دفعوا ثمناً غالياً فقد خطف العديد منهم وسوم ذويهم مقابل المال كما قتل وعذب العديد وقد عرضت العديد من الشهادات المؤلمة لضحايا من الصابئة عبر بعض الفضائيات او عبر مقاطع YouTube.. ففي مقطع من تقرير حول الصابئة الهاربين نحو الاردن يتحدث رجل بأواخر الاربعين بأسم (ابو ماهر) عن اختطافه من قبل ارهابيون اصوليون وتعذيبه بالكي بالنار والكهرباء على مختلف مناطق جسده وركله وضربه واهانته المقززة من خلال تبولهم عليه.. ليس لشيء سوى لآثارة الرعب بنفسه وبنفس اقاربه من الصابئة وجيرانه الاخريين.. (ابو ماهر) الذي عرض صور فوتغرافية له عند تعذيبه قال بأن الارهابيون اثناء تعذيبه كانوا يخاطبونه بوصفه بالنجس وبأمره بضرورة مغادرة هذه البلاد لآنها ارض الاسلام التي لا يحق لآمثاله من الانجاس العيش بها!.. ولازالت تلك الصورة غير قادرة ان تفارق ذهني لفتاة جميلة بعبق الزهور ببياضها الساطع وترتدي الثياب البيضاء بكت بحرقة امام شاشة قناة العربية الفضائية في احدى التغطيات الاعلامية عام 2009 وقالت: انا طالبة في كلية الطب ويضايقني البعض وبكل تبجح يقولون لي انتي نجسة لآنك صابئية!. وازدادت انفعالاً وبكاءاً: لماذا يقولون عني اني نجسة! وصرخت بشجاعة: انا لست نجسة انا طالبة بكلية الطب.
ولعل اي صحفي ذكي ومهني قادر على قراءة الهجمات على المندائيين والايزيديين والمسيحيين بالعراق.. بأنها اوسع من مجرد استهداف.. انها مشروع لأفراغ العراق من تنوعه.. نحو غرس الاصولية والتعصب وتجذير العنف.
بين العلم والعمل.. والشعر والدين..
للصابئة المندائين عقولهم الشهيرة بالرياضيات والفيزياء والهندسة، اما مهنتهم التي اشتهروا بها فهي صياغة المجوهرات الذهبية.. وبين المندائيين برز شعرائهم الكبار بالعربية ويكفي ان نذكر اسمان يعدان من ابرز وجوه الشعر العربي المعاصر وهما (عبد الرزاق عبد الواحد) و(لميعة عباس عمارة)، الزعيم الديني للصابئة حول العالم هو الشيخ (عبد الستار الحلو) الذي سبق وان التقيته ببيروت ضمن ندوة بحثية حول التسامح الديني بالعراق عقدت في اذار من العام 2010.. هالني بالرجل تلك الروحية الاخلاقية الجميلة والبساطة ودعواه الدائمة للسلام.. كان العديد من ممثلي الجماعات الدينية خاصة الاسلامية يتحدثون وكأنهم في خطابات حول الوحدة الوطنية.. كنت اتابع بدهشة قيام الشيخ عبد الستار بتصوير المتحدثون بكاميرا صغيرة لتصوير الفيديو.. وعند ايغال الحضور بالكلمات الخطابية قلت بذاتي لعل هذا الرجل البسيط والغير مائل للخطابات الرنانة.. سيسعى لتذكير البقية بما قالوه يوماً من شعارات قد يخفق العديد منهم بتطبيقها.. بواسطة ما صوره بكاميرته.
بين الحكومة والمهجر..
ليس هنالك من شك بأن الحكومة العراقية خاصة بعد العام 2006 مع تنامي العنف عملت على محاولة مساندة الاقليات الدينية ولكنها كانت عاجزة وبلا شك فالعجز لا يمنع الاتهام بالتقصير.. الصابئة الذين اصبح بقاءهم بالعراق شعارات لا اكثر بدأ العديد من منظميهم بالمهجر المطالبة بتوطينهم كتجمع ديني ببلد واحد او مدينة واحدة.. وعمل البعض على نقل هذا الطلب الى الامم المتحدة للمساهمة بالحفاظ على اقلية انسانية قديمة تواجه خطر التشرذم بين المجتمعات الكبيرة فضلاً عن خطر الاستهداف بموطنهم الاصلي العراق.
من جهتها قامت الحكومة العراقية بمنح مقعد برلماني للصابئة المندائيين كخطورة لتدعيمهم وحثهم على اللا هجرة الجماعية.. وفعلا اصبح النائب (خالد امين رومي) اول نائب برلماني مندائي بالبرلمان العراقي ذو (325 مقعد).. كما وقبل ذلك وعند اعلان مبادرة المصالحة الوطنية وتأسيس هيئة المصالحة الوطنية التي سرعان ما تلاشت لعدم هيكلتها وضيفياً كان قد طلب تمثيل الصابئة المندائيين عبر ممثل بالهيئة.. وفعلا عمل (طارق بركات الرومي) ممثلاً للصابئة المندائيين بهيئة المصالحة ولكن الهيئة ذاتها كانت بلا وجود حقيقي وسرعان ما تلاشت.
وبلا شك فأن الاجراءات الحكومية بزج ابناء الاقليات بالمناصب الحكومية يمثل خطوة ايجابية نحو تكريس المواطنة التي لاشك انها منقوصة لدى ابناء الاقليات على الارض.. فألاقليات العراقية قبل 2003 لم يكن ابنائها او بناتها يفكرون بالوضائف الحكومية او بعضها لآنهم يعلمون انها لن تمنح لهم.. وهذا منتهى التمييز.. اما الان فالحكومة تحاول اجتياز ذلك (نسبياً) وهي خطوة ايجابية بلا شك ولكن اخشى ان النتائج لن تكن بمستوى الطموح.. فالبقاء ببلد المتاعب المستمرة للاحرار وابناء الاقليات اصبح صعباً.. وطول عمر الازمة العراقية التي تقترب اليوم من عقد من الزمان دون حلول كاملة، يزيد من هاجسهم من المستقبل.
ربما هي لعنة اللا مواطنة بمجتمعاتنا.. ام لعنة ان يولد الانسان ابناً لآقلية.. او لعنة ان يصبح حراً.. او لعنة ان يغرد خارج السرب.. لست مؤمناً باللعنات ولكني لا اجد وصفاً لما يحدث بالعراق انسب من هذا الوصف.. ولعل حلمي بمستقبل افضل لازال نابضاً ولكن هل سيكون المستقبل العراق القادم (الذي اتمناه الافضل) مزدهر بالتعددية الدينية تحت سقف المواطنة.. لن اجيب حتى لا اتهم بالتشاؤوم.. ولكي اترك لبارقة الامل فرصة.. لعل رائحة الآس العطرة تفوح من جديد..